لم تعد الدول الغربية تولي الملف اللبناني وتشعبات خلافات القوى السياسية الاهتمام المطلوب، او لا تتعامل معه كالسابق لأكثر من اعتبار. وادركت البعثات الديبلوماسية لهذه البلدان في بيروت ان ليس في مقدور الافرقاء اللبنانيين تجاوز ازماتهم السياسية والاقتصادية التي استهدفت اخيراً لقمة عيش المواطنين وعدم تمكن شرائح واسعة منهم من تأمين الحد الادنى من حاجاتهم اليومية. ولا داعي للخوض في الحديث عن ازمة المحروقات والدواء ورغيف الخبز وارتفاع الاسعار التي تحلّق من دون رادع أو حسيب وسط كل هذه الفوضى. ويكفي الاستماع هنا الى نقيب اصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون وتحذيراته من انهيار القطاع الصحي.
وتوصلت اكثر من جهة ديبلوماسية غربية الى ان اللبنانيين عاجزون عن إتمام استحقاقاتهم الدستورية وفق القواعد والاعراف الموضوعة التي يتم تجاوزها. وأبلغ مثال على ذلك كيفية التعاطي مع الحكومة وعدم استغلال الحماسة الفرنسية بعد تفجير المرفأ في الرابع من آب الفائت حيث أفشل الافرقاء كل ما عمل الرئيس ايمانويل ماكرون على تحقيقه. ومن المفارقات ان اكثر رؤساء هذه البعثات توصلوا الى خلاصات مفادها ان لا قيامة سياسية لهذا البلد اذا استمر أهله على هذا المنوال من التعقيدات والمناكفات من دون اكتراثهم بمواطنيهم حتى لو خسروا كل مدخراتهم وودائعهم في المصارف وتراجع عملتهم الوطنية امام الدولار. ولم يعد امام الدول الغربية التعامل مع اللبنانيين إلا من البوابة الانسانية لتقديم المساعدات الاغاثية. واذا ساءت الاوضاع أكثر فمن غير المستغرب ان يحصر المجتمع الدولي علاقته معهم من هذه الزاوية على غرار ما يقدمه للاجئين الفلسطينيين عبر وكالة “الاونروا”. ويبقى الهدف عند هذه الدول هو عدم انهيار البلد في شكل كامل وليتمكن المواطنون من تأمين لقمة العيش وعدم سقوطهم بـ”الضربة القاضية”. ولم يعد ينقص إلا مطالبة الامم المتحدة بانشاء “اونروا” للبنانيين (!) بعدما أوصلهم السياسيون الى هذه المأساة. وتحولت كل الاتصالات الديبلوماسية الى الحديث عن كيفية دعم اللبنانيين ومساعدتهم في تأمين معيشتهم شأن الشعوب الفقيرة.
كذلك لم يعد الحديث مع الديبلوماسيين الغربيين يحتل مساحة واسعة من الخوض في النقاش السياسي لعدم التأكد من تحقيق مردود سريع، حيث سرعان ما يتمدد الى الاوضاع الانسانية الصعبة التي ستتوضح أبشع صورها بعد اتخاذ قرار بوقف الدعم الذي يوفره مصرف لبنان ولو من جيوب المودعين.
وانسحبت مشاهد العوز والحرمان هذه على الجيش وباقي الاجهزة الامنية التي تعمل بـ”اللحم الحي”، ولم تعد قادرة على تأمين شروط الاستمرارية لضباطها وجنودها. وبعدما كان الحديث يدورعن تزويد المؤسسة العسكرية بصواريخ واعتدة حديثة وقنابل موجهة بـ”الليزر” التي استعملها في مواجهاته مع الجماعات الارهابية، أخذ النقاش يدور حول كيفية تأمين اللحوم والاطعمة للجيش والتفتيش عن مساعدات مادية للمؤسسة وعقد مؤتمر لهذه الغاية. ومن هنا لم تعد رسائل الديبلوماسيين الغربيين تتحدث عن امكان توفير حل سياسي قريب على مستوى تأليف الحكومة، ولا يمانعون ان تصبح القضية اللبنانية مثل شقيقتها الفلسطينية مفتوحة على علاجات خفيفة، ولا سيما ان اكثر من دولة ترصد الدرس الفرنسي الذي باءت خلاصاته بالفشل. ولا يريد الاوروبيون الدخول في مغامرة جدية يكون مصيرها الفشل، ولا سيما بعد تدخّل باريس وعدم نجاحها في ترجمة مبادرتها التي انتهت بعدم قدرتها على جمع الرئيس المكلف سعد الحريري ورئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل. ويقول لسان حال الاوروبيين انه في حال تمكن اللبنانيون من تأليف حكومة يصبح في امكان المجتمع الدولي عقد مؤتمرات وتقديم مشاريع ومساعدات.
ولذلك اصيب المجتمع الدولي، بحسب ديبلوماسيين غربيين، بـ”خيبة أمل” كبيرة من جراء سياسة التعنت والتحدي بين الافرقاء في الداخل، مع ملاحظة ان هذه الدول لم تعد تولي المنطقة الاهتمام الكافي. ويتمثل هذا الامر في المقاربة الاميركية الجديدة من تعاطيها في افغانستان والعراق وصولاً الى اليمن مع تسليم ببقاء الرئيس السوري بشار الاسد في سدة السلطة ومساعدته في الانفتاح على دول الخليج، ومن دونها لا قيامة مالية حقيقية للبنان. ويبقى همّ الروس مركزاً على توفير العناية المطلوبة للأسد والمساهمة في انفتاحه على العالم. أما القاهرة، فلا يمكنها إحداث اي خرق ايجابي في الداخل اللبناني على عكس نجاح وساطتها بين “حماس” والجانب الاسرائيلي.
من جهة اخرى، ثمة تطور في تقييم اكثر من بعثة اوروبية وغربية هو ان الانتخابات النيابية المقبلة، سواء كانت مبكرة أو في موعدها، قد لا تحدث التغيير الموعود الذي يتحدث عنه البعض، على اساس ان القوى السياسية والطائفية الموجودة لا تزال قادرة على حجز العدد الاكبر من المقاعد النيابية، وان الناشطين في المجتمع المدني والاحزاب الجديدة لا يقدرون على تغييرخريطة وجوه الندوة البرلمانية. ومن الملاحظات الديبلوماسية ايضاً ان الجهات التي ترفع الشعارات وتنادي باستبدال الطبقة السياسية لم تستطع توحيد رؤيتها و”لن يغيروا شيئاً” لعدم توصلها الى مشاريع مشتركة وجدية لسحب البساط من تحت أقدام الزعماء والاحزاب الكبرى.
المصدر : النهار- رضوان عقيل