“الدولة السايبة تعلم الناس الفلتان”، عبارة اكثر ما تنطبق على الواقع اللبناني المهشّم، المشلّع، المفكك، المنكوب بعدما حوّل المسؤولون عن قيادة سفينة البلاد، الدولة اللبنانية الى مرتع لكل من تسول له نفسه التعدي على الآخرين او استباحة السيادة لتنفيذ مخططات خاصة أو استعراض عضلاته العسكرية لترهيب اللبنانيين، او ضرب القانون عرض الحائط لفرض قوانينه الخاصة المتصلة بأجندات اقليمية خبيثة تنفذ على اشلاء لبنان.
مراجعة سريعة لما شهده الاسبوع المنصرم من حوادث امنية وسياسية، تكفي لتثبيت وجهة النظر هذه، واقران الشك بالواقع. بداية مع مواجهات غزة بين الفلسطينيين والاسرائيليين وعملية “سيف القدس” التي لم يصب سيفها اسرائيل فحسب، وقد اثبتت حماس، ومن خلفها ايران حكما، مدى قدرتها العسكرية على تهديد أمن الدولة العبرية وزعزعة استقرارها بآلاف الصواريخ التي لم توفر مدينة او قرية، بل جرح في العمق سيادة لبنان بالصواريخ “اللقيطة” التي اطلقت من جنوبه واستجلبت ردا اسرائيلياً من دون ان تتجرأ السلطات اللبنانية على ملاحقة مطلقيها، كالعادة، او اتخاذ المقتضى القانوني في حق من يستبيح اراضيها ساعة يشاء مهددا لبنان بإقحامه في مواجهات عنفية في اشدّ اللحظات ضراوة في تاريخه.
والمواجهات هذه ضد العدو الاسرائيلي، تقول اوساط سياسية معارضة لـ”المركزية” لم تقتصر على “الممارسات الفلسطينية” الانتقامية، بل تمددت الى استعراضات لبنانية حزبية على الحدود الجنوبية من داعمي القضية بالموقف عن بعد، لا بالبندقية الموجّهة في غير اتجاه راهناً باعتبار ان مصالح المحور الممانع لا تقتضي مقاومة العدو الذي لا ينفك يدكّ مواقع حزب الله وسائر اذرع ايران العسكرية كل يوم في الاراضي السورية من دون ان يلقى اي رد يذكر. فاحتفالا بنصر فلسطين وعيد التحرير، قام عددٌ من عناصر حزب الله امس بعرض عسكري على الحدود في سهل مرجعيون مقابل مستوطنة المطلة الاسرائيلية. عرض لم يفهم اللبنانيون السياديون مغزاه، ولا حتى اكثر الداعمين لقضية الفلسطينيين المحقة، فالدعم والمناصرة ممن يمتلك قوة السلاح يكونان بالمواجهة المباشرة ومساندة الشعب الفلسطيني من داخل فلسطين والقدس وليس باستعراضات عسكرية لا تغني ولا تسمن عن جوع خصوصا، بعدما توقفت المعارك بمفاوضات سياسية ووساطات عربية ودولية وليس بالردع العسكري.الامر الذي تقرأ فيه الاوساط مجرد دلالة الى تثبيت معادلة الدولة الضعيفة والدويلة القوية المتحكمة بالقرار السيادي، لا اكثر.
ومن استعراضات الحزب الى العراضات السورية التي استنفرت البلاد في 20 الجاري وكادت تتسبب بفتنة لبنانية- سورية، لا يغيب عن بال احد مدى خطورتها اذا ما اندلعت في ظل وجود نحو مليوني سوري على الاراضي اللبنانية بين مقيم ونازح ولاجئ. فالممارسات الخارجة عن المنطق التي قام بها بعض المتوجهين الى سفارة سوريا للاقتراع لرئيس بلادهم المفترض ان يعيدهم اليها ما داموا من مؤيديه ولا خطر عليهم في مناطق نفوذه الشاسعة، لم تشهد اي دولة في العالم مثيلا لها حيث اقترع النازحون السوريون في سفارات بلادهم بانتظام وهدوء بعيدا من مظاهر الاستفزاز، لكن في لبنان حيث لا دولة ولا من يفرض القانون، باعتبار ان القيمين على شؤون البلاد متلهون بمناكفاتهم السياسية والبحث عن مصالحهم الفئوية وخلافات عروشهم، كل يغني على ليلاه ويتصرف كما يحلو في “حارة كل مين ايدو إلو” ، ولو ادت تصرفاته الى الفتنة .
اما الكرزة على قالب الحلوى، فوضعها العرض السوري القومي “المرخّص” في شارع الحمرا امس، بما تضمن من تهديد بالقتل ونبش لاحقاد الماضي البغيض واعادة انتاج الخطاب الذي تسبب بعقود من الحروب المدمّرة ما زال اللبنانيون يدفعون ثمنها حتى الساعة.
كل الانتهاكات هذه، تحصل على مرآى من الدولة واعينها المغمضة عمدا عن استعراضات وممارسات “ميليشياوية” تنتهك الحرمة والسيادة والقانون وتعدّ، على ما تؤشر، الى مرحلة امنية سوداوية مقبلة على البلاد، اذا لم يتم ردعها وفرملة اندفاعة كل من يحلو له اللعب على الوتر العنفي، مستفيدا من الفوضى السياسية والاجتماعية التي غالبا ما تهيء الارضية للفتن والحروب.. فهل هذا المطلوب؟