يتبارز كثيرون داخل وخارج لبنان منذ فترة على إعلان نهاية سعد الحريري. يبرّرها البعضُ بعجزه عن تأليف حكومة بسبب تمسّكه بعدد الوزراء في التشكيلة العتيدة وببعض الحقائب، ويعيد البعضُ الأخرُ أسبابها- ومعظمهم من الذين ترعرعوا في بيت رفيق الحريري- الى عدم صلابته في مواجهة حزب الله والمحور الإيراني، ويجمعُ البعضان على أن رئيس الحكومة المُكلّف فقد دعمه الخارجي المطلوب وصار عاريا سياسيا بلا دعم سعودي. ذلك أن “سياسة التبعية والذُل” التي إتّبعها معظمُ ساسة لبنان منذ الإستقلال تؤكد على ضرورة أن يقرّر الخارج وينفّذ الداخل، وحين يغضب الخارج ينتهي سياسيٌ في الداخل.
قبلَ أقل من 3 سنوات، زرتُ الرئيس الحريري في “بيت الوسط”. لم يكن في أفضل أحواله بسبب السهام الكثيرة التي يُطلقها ضده المقرّبون قبل الخصوم. كان وجهه القاتم رغم إبتسامة الترحيب يختصر النيران والأزمات المُلتهبة في الداخل اللبناني والإقليم، ويرجّع صدى الألم النفسي بعد إحتجازه في السعودية لأسباب كثيرة باتت معروفة، بعضها مالي وبعضها شخصي وقليلها سياسي.
كان الجو الإقليمي والدولي ضاغطا على لبنان وعليه. سألتُه :” لماذا لا تقول كلّ شيء وتشرح للناس ما أنت فيه، وتضع كل طرف أمام مسؤولياته طالما عندك كل هذه المعطيات”، قال :” لا أريد خصومات، فمن أقول ضده شيئا الآن، سأكون معه في الحكومة بعد فترة، ولن يقوم لبنان سوى بالتسويات والوسطية، لا أحد سينتصر على الآخر، وأنا اريد تقريب وجهات النظر لا تعميق الشروخ”، ثم تحدّث عن التغييرات المحتملة في المنطقة، فاوفقته على بعضها وخالفتُه في بعضها الآخر وقلت له ما أعرف.
في تلك الفترة كما قبلها وكما الآن، كان قوس الأزمات والحروب في ذروته: الجارة سورية غارقة بحربها الضروس. اليمن يعيش “أسوا كارثة أنسانية في هذا العصر” وفق توصيف الأمم المتحدة. العراق تحوّل الى ” دولة فاشلة” كما قال لاحقا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي نفسه قبل شروعه بورشة التغيير التي نجحت الى حد جيد. وليبيا تزداد تفتتا، والرئيس دونالد ترامب يُباهي من جهة بصفقة القرن ، ويتبجّح من جهة ثانية بإدخال مبالغ مالية كبرى الى بلاده وأبرزها عربي ، وجمر الثورات ما زال يغلي في الساحات العربية.
لم يكن هامش الخيارات المطلوبة من الحريري واسعا. كان عليه رفع الصوت عاليا ضد المحور الإيراني ومواجهة حزب الله حتى لو أضطره ذلك الى حمل السلاح وتشكيل فصيل عسكري كبير، حتى لو غرق لبنان بما غرقت به الدول المذكورة أعلاه. وجد نفسه أمام إحتمالين: المواجهة يعني كشف حياته الشخصية والسياسية أمام كل المخاطر، أو المناورة وتدوير الزوايا والتنسيق مع الجميع بمن فيهم حزب الله لتأليف حكومة، علّ في ذلك ما يضع اللبنة الأولى أمام إنفراجات سياسية وإقتصادية مؤقتة، بإنتظار إنفراجات أكبر على مستوى الإقليم والعالم.
إختار تدوير الزوايا والولوج الى منطلق الإعتدال. حاور وحاول وناور وهو يعرف مسبقا ان موازين القوى العسكرية في الداخل ليست لصالحه ولا يريد القتال . إعتقد أنه يستطيع أن يفعل كما والده الشهيد رفيق الحريري، في أن يتواصل مع إيران والسعودية وفرنسا وروسيا وأميركا في أسبوع واحد، لكنه اصطدم بعقبتين، الأولى داخلية، تمثلت برئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني جبران باسيل اللذين دافعا بشراسة عن موقفهما وأثبتا أنهما أكثر عنادا مما ظن البعض، والثانية خارجية، حيث أن كل مروحة رحلات الحريري الى الخارج، لم تنفع في فتح أبواب السعودية. صارت الأطراف التي من المُفترض أن يخاصمها الحريري لكسب ود الرياض، هي نفسها التي تجاهر بضرورة بقائه، بينما الأطراف التي من المُفترض أن تكون أقرب اليه، تناور ضده، وتوصل الشكاوى للسعودية وتحفر له الفخاخ.
ليس خافيا على أحد اليوم أن رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع هو الحليف الأول للسعودية في لبنان. وقد سألتُ أحدَ المقرّبين من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قبل أيام عن سبب ذلك، خصوصا أن بعض وسائل التواصل الإجتماعي وفي مقدمها Clubhouse التي يديرها سعوديون، يرحّبون كبير الترحيب بالقواتيين، ويتعاملون بشيء من البرودة مع حزبيي تيار “المستقبل”، فقال لي حرفيا :” إن سمير جعجع المسيحي الماروني حفظ الوفاء لنا أكثر بكثير ممن يُفترض أن يكونوا أبناءنا، فكيف لا يكون حليفنا الأهم”. وثمة مشاورات دائمة تجري على خط الرياض-معراب في كثير من الأمور الداخلية.
عرفت الحياة السياسية لسعد الحريري حتى الآن 3 مراحل، أولها الضياع الكامل لكن مع احتضان كامل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم التناقضات والفوضى مع ما تخللها من نزوع للانخراط في لعبة الحروب خصوصا السورية منها بالموقف أو بمساعدة المعارضة، ثم العقلانية ومتابعة الملفات بدقة والإتجاه أكثر فأكثر صوب الإعتدال وتدوير الزوايا. يقول دبلوماسي عربي قريب من الرئيس المُكلّف :” إن الحريري اليوم يختلف تماما عن الحريري قبل سنوات، هو صار في ذروة النضوج والعقلانية ويتابع منذ الصباح الباكر كل الملفات بنفسه، ويريد فعلا النهوض بلبنان لكن بالتعاون مع الجميع وليس بالخصومة معهم “. لم يغيّر الحريري موقفه من النظام السوري، لكنه تعلّم من دروس سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها. هو يرى أن كل التدخلات الخارجية لتأليب ودعم طرف ضد آخر، لم تغير شيئا في المعادلات، وإنها ساهمت فقط في تدمير تلك الدول ولم تحسن من شأن ” أهل السنّة” وتم تهجير الكثير منهم ( هذا تقريبا ما قاله في مقابلته التلفزيونية الأخيرة مع الزميل مارسيل غانم ). قال :” يقولون سعد الحريري ضعيف ، لكن سعد الحريري شاف شو صار بسورية، وبدك أعمل ببلدي هيك”.
يريد الحريري تدوير الزوايا، لكنه يعتبر أنه بلغ الخط الأحمر من التنازلات. ويرى أن على الأطراف الأخرى في الداخل تفهّم وضعه ومكافأته على عدم الإنجرار الى الحروب. لعلّه كان يأمل في أن يتغيّر المناخ الخليجي حياله، فيُساعده على الأقل بالوعود المالية في حال ألّف الحكومة. ربما كان مستعدا لتنازلات اضافية، لكنه كان يُواجه دائما بضغوط داخلية من رفاق الأمس بأنه يتنازل أكثر من اللازم، وبرفض خارجي لأي تحالف مع حزب الله.
حاولت مصرُ أن تشكّل له درعا. نسّقت مع باريس المبادرة الفرنسية. حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يحصّنه أيضا من بوابة العلاقة التاريخية التي ربطت بوتين برفيق الحريري والتي ورثها سعد الحريري فاستقبله مرّات عديدة، ثم استقبلته الإمارات قبل أن يزور بعدها تركيا موحيا بلعب دور في الوساطات، لكن كل ذلك لم يفتح أبواب السعودية وهي الأهم له وللبنان. وصل الأمر بأحد المسؤولين العرب الى طرح السؤال التالي في الرياض :” لماذا لا تتعاملون مع الحريري كما تتعاملون مع مصطفى الكاظمي، فهما في وضعين متشابهين تماما”. لم يلق جوابا مُباشرا . لكن الجواب غير المباشر كان مفاده أن “الكاظمي يبدو أكثر جرأة في مواجهة الميليشيات المسلحة، وفي الإعتراض على الدور الإيراني”.
كل ما تقدّم جاء في مرحلة لبنانية حسّاسة جدا. فلبنان مقبل على انتخابات نيابية ورئاسية. يُدرك الحريري أن بعض الوزارات ضروري، ولكن مشكلته أن الرئيس عون والوزير باسيل وحلفاءهما يدركون أيضا الشيء نفسه من ان هذه الوزارات ضرورية. القى الإستحقاق الرئاسي ثقله منذ الآن على الواقع اللبناني، ليشكل عقبة أخرى أمام الحريري. فاكتمل قوس الأزمات حوله.
مطلوب من الحريري تقديم تنازلات جديدة أو اجتراح معجزات. لا التنازلات ممكنة بعد، ولا المعجزات محتملة في بلد إنهار تماما. لعل ما كان ممكنا قبل استئناف الحوار الأميركي الإيراني والإتصالات السعودية الإيرانية والانفتاح العربي على سورية، سيُصبح مستحيلا بعد حين. هل فقد الحريري دوره؟
لا شك أن وضعه صعبٌ للغاية الآن، وأن الرياح الإقليمية والدولية قد تطرح أسماء أخرى مكانه، وأن المقرّبين منه ينفضّون من حوله لكسب رضى آخر أو لضُعف خزينته حيث صار عُرضة لمطالب الموظفين في شركاته بتعويضات مالية ( ليته دفع كل التعويضات مهما كان ). ولا شك أن وضعه ازداد صعوبة حين سُدت السُبل في وجهه، فكاد يستقيل مؤخرا لولا ضغوط من الرئيس نبيه بري وأطراف عربية في مقدمها مصر. ولا شك أن السعودية ومن خلال التوافد الكبير على السفارة السعودية في لبنان تضامنا بعد تصريحات الوزير شربل وهبي ، تستطيع القول ان موقعها في لبنان ما زال كبيرا وهو ليس متعلقا بشخص الرئيس الحريري. لكن ماذا بعد؟
الرئيس الحريري أخطأ وأصاب في حساباته الداخلية وقراءاته الأقليمية، هو لم يخطىء أكثر من غيره، ولم يُفلح أكثر من غيره ، فهو جزء من الطبقة السياسية المسؤولة عن ايصال لبنان الى ما وصلت اليه عمدا او بسبب فشل السياسات المعتمدة، لكنه يحاول. ربما كان عليه أن ينشر برنامجا إصلاحيا كاملا، يخاطب فقراء هذا الوطن والراغبين بالتغيير والذين نزلوا الى الشوارع غضبا في 17 تشرين 2019، وربما كان عليه أن يفرض اختيار وزراء من أهل الاختصاص بناء على برامج واضحة وفترة زمنية محددة لتنفيذ هذه البرامج المتعلقة بالكهرباء والماء والطبابة والصحة والتعليم وسعر الصرف، وربما كان عليه مخاطبة الناس عبر الشاشات أو مباشرة في لقاءات متكرّرة، وربما كان عليه النزول الى الشوارع وزيارة المناطق اللبنانية أكثر من السفر الى الخارج، وربما كان عليه القول أنا رئيس حكومة انقاذ ولا يهمنى طائفة أو مذهب هذا الوزير أو غيره، لكن الأهم برنامجه الذي سيكون كالآتي، وانا مستعد للتضحية بأي مقعد لطائفتي أذا كان الوزير المعني فعلا أنقاذيا.
ربما وربما وربما، لكن الأكيد أن الحريري،مهما أخطأ أو أصاب، نجح على الأقل في تجنيب لبنان خصوصا في السنوات القليلة الماضية، الغرق في حروب دامية تُشبه ما حصل في المحيط العربي. لم يقبل تشكيل فصيل مقاتل والإنجرار الى حرب كتلك التي قادها زعماء الطوائف سابقا ودمرت البلاد والعباد، والآن يتبارز الجميع من حوله، للقول :” لو كنا مكانه لكّنا أكثر صلابة وواجهنا إيران وحزب الله “، أو للقول :” لو كنّا مكانه لقدمنا تنازلات من أجل التسويات” وهم حتما غير صادقين، ومعظمهم يتملّق للحصول على رضى السلطان. وأما مناصرو الحريري فلا يفعلون شيئا يّذكر للتأكيد فعلا على محوريته في بيئته.