كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
مع فقدان “زخات” العملة الخضراء تحولت القطاعات التجارية والخدماتية إلى اللون الأصفر. اليباس عرّى شجرة الإقتصاد، ولم يُبقِ إلا على “أوراق” القمح، الدواء، والمحروقات الواهنة تنتظر رياح رفع الدعم لتسقط جميعها.
متابعة الأخبار عن انقطاع الدواء، ومشاهدة عذابات المرضى أمام الصيدليات يثيران الغضب ويدفعان إلى المنادة للإبقاء على الدعم. إلا أنه من الجهة الأخرى، فان قطاع الدواء مصاب كغيره من القطاعات بـ “ورم” تثبيت سعر الصرف “الخبيث”. حيث وفّر “وهم” العملة القوية، المدعومة بغياب السياسات الصحية وحملات التسويق الفوضوية، قدرة غير محدودة على الإستيراد من الخارج والتسويق في الداخل. فانتفخ القطاع وتوسع حتى وصلت فاتورة الدواء السنوية إلى ما بين 1.3 و2 مليار دولار. ما يعني أن حصة الفرد اللبناني من الدواء تبلغ 350 دولاراً سنوياً، في حين أنها لا تتجاوز 60 دولاراً في تونس و180 دولاراً في المملكة العربية السعودية.
الأفق المسدود
الإنتفاخ القائم على استمرار تدفق الدولار، كان من الطبيعي أن يهمد مع شح العملة الصعبة. ولكن عدم معالجة الأزمة عند بدء ظهورها في تشرين الأول من العام 2019، وعدم توفّر خطة بديلة سيوصلنا بحسب نقيب الصيادلة غسان الأمين إلى “فقدان سريع للأدوية، وإقفال قسري للصيدليات بعد شهر من الآن”. جرس الإنذار الذي قرعه الأمين يأتي بعد إقفال نحو 600 صيدلية، وفي ظل استمرار “إقتتال” المرضى على حبة دواء أمام أبواب الصيدليات، وغياب أي أفق جدي للحل. فحتى خطة ترشيد استيراد الدواء لن تخفّض الدعم إلا من حدود المليار دولار سنوياً، إلى 750 مليوناً، أي حوالى 250 مليون دولار فقط. ومع هذا فان الرقم يبقى كبيراً جداً، ومن الصعب على مصرف لبنان تأمينه، خصوصاً في ظل نزف الإحتياطي، وعدم وجود رقم فعلي للمبالغ الحقيقية المتوفرة من العملة الصعبة. وبالتالي فان حتى ترشيد الدعم على الدواء لن يعود ينفع في المستقبل القريب. ومن هنا يطرح الأمين “إمكانية توفير بدائل رخيصة. ولكن هذا الأمر يتطلب قراراً وطنياً من الحكومة المستقيلة”.
تخفيض فاتورة الدواء 50%
أمام هذا الواقع يرى أمين عام حزب الكتلة الوطنية بيار عيسى أنه يجب تقسيم الحل إلى شقين:
– وطني عام، يتلخص بتفعيل العجلة الإقتصادية، وإعادة الثقة من خلال حكومة مستقلة عن المنظومة الحاكمة.
– تقني خاص، ويتعلق بمعالجة مشاكل كل قطاع بقطاعه.
وفي ما خص قطاع الدواء تحديداً، فليس من المقبول في ظل هذه الأزمة الإبقاء على استيراد اكثر من 20 صنفاً من الدواء نفسه بغير أسماء، واستمرار ضرب الصناعة الوطنية لمصلحة الأدوية المستوردة. ففي الوقت الذي ينتج فيه لبنان مُسَكّن “فيبرادول” FEBRADOL بقيمة 2 مليون دولار، تصل فاتورة استيراد دواء مشابه له إلى 38 مليون دولار. من هنا فان المطلوب:
– تغيير العادات الشرائية ووقف الحملات التسويقية، وتحديداً مع الاطباء لحثهم على وصف أدوية معينة دون سواها.
– الإنتقال إلى أدوية “الجنريك” بمعدل صنفين لكل دواء.
– العمل على تعزيز صناعة الدواء الوطنية، التي باستطاعتها إنتاج أكثر من 40 في المئة من الأدوية المستهلكة. وهذا ما يمكن إتمامه في مهلة زمنية قصيرة لا تتجاوز السنة.
– وقف الإحتكار والعودة إلى المنافسة الحرة.
هذه الحلول بامكانها تخفيض فاتوة الدواء بمقدار النصف، أي إلى حوالى 500 مليون دولار. وإلا، فان لا شيء سيحول دون الإنهيار الكلي، سواء تم الإبقاء على الدعم أو رفعه والإنتقال إلى البطاقة التمويلية، كما يخططون. فـ”بالبطاقة المقدرة كلفتها بـ 1.5 مليار دولار، ستُدفع من الإحتياطي وستكون سلسلة رتب ورواتب (رقم 2) لجهة الشعبوية في طرحها وعدم تقدير كلفتها وكيفية تمويلها بشكل دقيق”، برأي عيسى. “أما البديل فهو أخذ القرار الجريء بالتصدي للتهريب الجمركي الذي تقدر قيمته لفاتورة المحروقات فقط بـ 700 مليون دولار، وملاحقة التهرب الضريبي ووقف الهدر والفساد. فهذا المثلث الذهبي كفيل بتأمين الحاجات التمويلية لمكافحة الفقر، وتأمين الدواء والحاجات الأساسية من دون الإستدانة والإستمرار في السطو على أموال المودعين”. وبحسب عيسى فان “ما كان يجري في لبنان هو “فوضى حرة، وليس بإقتصاد حر. فالأخير يقوم على المنافسة وليس على احتكار “الكارتلات” والتهرب الضريبي “. وبرأيه فان “وقف الاحتكارات والوكالات الحصرية كفيل بتخفيض فاتورة الدواء وأي سلعة أخرى”.
الصيدليات والمعاناة
التضخم في استيراد الأدوية كان لا بد أن ينعكس زيادة كبيرة في أعداد الصيدليات. فانتشر على الأراضي اللبنانية نحو 3300 صيدلية. إلا أن وضع الصيدليات الذي ظل ممتازاً حتى الأمس القريب، أصبح اليوم أسوأ من حالة المواطنين. فـ”بعض الشركات لا تلتزم بتسليم الحد المتفق عليه من الأدوية. والتقنين ارتفع بنسبة تصل إلى 70 في المئة”، تقول الدكتورة الصيدلانية منار أنيس موسى. “وهذا يطال أكبر الشركات التي تغطي السوق بأدوية السكري والضغط والقلب والسيلان. ففي الوقت الذي تم الإتفاق فيه على سبيل المثال على تزويد صيدلية معينة بـ 14 علبة من دواء “مدر البول”، فان الكمية المسلمة هذا الشهر بلغت 4 علب فقط. مع العلم أن الكميات المطلوبة أو المتفق عليها مقسمة على المرضى. الأمر الذي يحرم 10 أشخاص من أصل 14 من الدواء، ويوقع الصيدلي بحيرة في أمره لمن سيعطي الدواء قبل غيره”. والذي يحصل بحسب موسى أن “المرضى يقصدون كل الصيدليات في نطاقهم أو حتى أبعد، ويشترون من كل صيدلية علبة دواء، وذلك خوفاً من انقطاعه أو ارتفاع سعره، وهذا ما يعمق الأزمة”.
إضافة إلى هذا الواقع المر الذي حول أغلب الصيدليات إلى متاجر لبيع مواد التعقيم ومستحضرات التجميل، فان “الإبقاء على تسعيرة الأدوية على 1515 وبعمولة 22.5 في المئة ألحق خسائر فادحة في الصيدليات”، تقول موسى. “مع العلم أن كل المصاريف الشخصية والمتعلقة بالعمل تسعّر على دولار السوق، أي 12700 ليرة، ما يدفع الصيادلة إلى الإستهلاك من رأسمالهم ويأكلون من لحمهم الحي”. وهو ما سيدفع بحسب موسى إلى “إقفال المزيد من الصيدليات. حيث أن الأدوية التي تباع لا يعاد تسليم نفس الكميات منها من قبل الشركات. وهناك العديد من الأصناف فقدت كلياً وأهمها حليب الأطفال للفئة العمرية بين 1 و3 سنوات. كما أن مطالبة مصرف لبنان الشركات بأخذ الموافقة المسبقة على الإستيراد، يؤخر تأمين الأدوية في الأسواق”.
في ظل غياب الرقابة الجدية والفاعلة، فان زيادة الطلب عن العرض تدفع إلى أمرين خطيرين جداً: توسع السوق السوداء، بحيث أن الذي يدفع أكثر يحصل على السلعة. أما الأمر الثاني فهو سواد مبدأ المفاضلة، إذ يعمد مالكو السلع إلى توزيعها باستنسابية ومن دون قواعد عقلانية. وهذا مع الأسف ما يحصل في سوق الدواء وأسواق كل المواد المدعومة.