كل المعطيات تشير الى أن لا حكومة في الأفق، وما يتطلع إليه اللبنانيون من فرج قريب هو مجرد “سراب يحسبه الظمآن ماء”، ففي بلد تتقدم فيه المكاسب الشخصية على المصالح الوطنية العليا، ينظر كل فريق سياسي الى ما يمكن أن يحققه من تشكيل الحكومة التي يبدو أن أحدا لم يجد له مصلحة حتى الآن في أن تبصر النور، فيمعن في التعطيل ويتهم به الطرف الآخر، فيما شعب لبنان العظيم يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، والبلد يتجه الى قعر الهاوية بعدما بات يفتقر الى أبسط مقومات الحياة من محروقات وأدوية وكهرباء.
لا يوجد بريء من تهمة التعطيل، بل الجميع مشاركون في جريمة إبقاء لبنان من دون حكومة، وعدم السير في طريق الانقاذ من رأس الهرم حتى قاعدته، ولكل من هؤلاء أسبابه الشخصية الموجبة التي يغلفها بشعارات سياسية وبحقوق طوائف وميثاقيات ووحدة معايير ومبادرات وغير ذلك، فيما حقائق الأمور تكشف أن كل طرف يحاول الوصول الى مبتغاه السياسي على حساب الوطن والشعب.
رئيس الجمهورية ميشال عون يحقق في آخر عهده حلمه التاريخي في “النظام الرئاسي” الذي يمارسه مع فريق من المستشارين، في ظل حكومة تصريف أعمال ضعيفة وغير منتجة، وغياب حكومة عاملة، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر واحد لجهة تعطيل إتفاق الطائف الذي لطالما وقف ضده، وتصفية حساباته مع الرئيس سعد الحريري بمنعه من الحكم، وبالتالي فإما أن يكون تشكيل الحكومة وفقا لشروطه التي تصب في مصلحة جبران باسيل أو أنه غير مستعجل على شيء وليذهب البلد الى جهنم..
الرئيس سعد الحريري الذي طوى خيار الاعتذار وآثر إستكمال المعركة مع عون وفريقه السياسي، يسعى الى الحصول على ضوء أخضر سعودي، إنطلاقا من يقينه بأن تشكيل الحكومة من دون دعم عربي سيجعل حكومته في مهب الريح، خصوصا في ظل الاتجاه الى رفع الدعم عن المواد الأساسية، والشروط التي ستفرض على لبنان من قبل صندوق النقد الدولي لجهة تحرير سعر الصرف، والتخفيف من موظفي القطاع العام وغيرها، ما قد يعيد إحياء الثورة التي سبق وأطاحت بحكومته بسبب ضريبة الواتساب.
رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، يدرك جيدا أن عمه رئيس الجمهورية لم يعد قادرا على متابعة تفاصيل العمل الحكومي، لذلك يخشى أن يستفرد الحريري بالحكم، ويدرك أيضا أن عدم حصوله على الثلث المعطل في الحكومة سيخرجه من المعادلة السياسية خصوصا إذا ما حصل فراغ في الرئاسة الأولى مع إنتهاء الولاية، لذلك يصر على الثلث المعطل كضمانة لبقاء تياره.
وتشير معلومات الى أن نقاشا يدور في الجلسات الداخلية للتيار الوطني الحر، يتمحور حول أنه في حال تشكيل الحكومة وإنتهاء ولاية رئيس الجمهورية، فإن الحكومة مجتمعة برئاسة الحريري ستحل مكانه بحسب الدستور، كما حصل مع حكومة تمام سلام عند إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وهذا الأمر سيفرض على الرئيس عون مغادرة قصر بعبدا، أما في حال عدم تشكيل الحكومة والابقاء على حكومة تصريف الأعمال، فإن عون سيكون لديه الحجة في البقاء لتسيير شؤون الدولة، ما يؤدي بالتالي الى تمديد مقنع، سيحتاج الى تفاهمات إضافية للانتهاء منه.
حزب الله يشعر بالاحراج مع الحريري الذي يستمر في التكليف بناء على دعم الثنائي الشيعي، لكن للمرة الأولى لا يقوم حزب الله بتسمية وزرائه بشكل علني في الحكومة، وهو أمر قد ينعكس عليه سلبا في شارعه، وبالتالي فإنه لا يمانع من الانتظار الى حين تبلور المفاوضات الاقليمية بشأن الملف النووي والذي قد يصب في مصلحته لبنانيا بما يعيد خلط الأوراق الحكومية من جديد.
الرئيس نبيه بري يخوض معركة منذ بداية العهد مع ميشال عون وجبران باسيل، وهو يقف الى جانب الحريري في معركته ضدهما لتشكيل حكومة من دون ثلث معطل، بهدف إضعاف التأثير العوني في الحكومة.
كل هذه التناقضات وتداخل المصالح يجعل تشكيل الحكومة في الوقت الراهن من المستحيلات، وبإنتظار أن تتبدل الظروف الاقليمية التي زادت تعقيدا مع العدوان الاسرائيلي على غزة، أو أن تنضج إحدى المبادرات المحلية، سيكون على اللبنانيين أن يستعدوا الى مزيد من الأزمات التي بدأت تأخذ الشارع الى العنف الدموي الذي ترجم أمس بسقوط قتيل على محطة بنزين في عكار.