بغضّ النظر عمّن معه حق ومن هو المُخطِئ، يَستغرب الكثيرون كيف تمكّن رئيس الحُكومة المُكلّف سعد الحريري الذي لم ينجح في تشكيل حُكومة جديدة بعد مُرور أكثر من ستة أشهر على تكليفه، من الإحتفاظ بهذا التكليف حتى هذه اللحظة، طالما أنّه لا يحظى بتأييد الرأي العام اللبناني الناقم على الواقع الحالي وعلى كل القيادات والمسؤولين، ولا بتأييد مجموعات سياسيّة وحزبيّة داخليّة أساسيّة، ولا يحظى أيضًا بالغطاء الإقليمي والدَولي-كما يتردّد! لكن خلف هذا الواقع، حقيقة مَخفيّة، تتمثّل بدعم رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي للحريري، وإدارته لتشكيل سياسي غير مُعلن، سيكون له الكلمة الفصل في إستحقاقات عدّة مُقبلة على لبنان. ماذا في التفاصيل؟.
بداية، لا بُد من التذكير بسرعة بما حدث مُنتصف العقد الماضي لفهم ما يحدث حاليًا، حيث أنّه خلال فترة الفراغ الرئاسي الأخيرة، تمسّك “حزب الله” بترشيح رئيس “التيّار الوطني الحُرّ” آنذاك العماد ميشال عون لرئاسة الجُمهوريّة اللبنانيّة، وفاء لمواقف “العماد” معه، ولأهداف مُرتبطة بالحفاظ على مواقف “التيّار” الإستراتيجيّة الداعمة لمحور “المُقاومة” والتي تؤمّن الغطاء له. بالتوازي، كان لرئيس مجلس النواب نبيه برّي الرأي المُغاير، دعا في حينه إلى إنتخاب رئيس “تيّار المردة” سليمان فرنجيّة رئيسًا للبلاد، على أن يكون كلّ من تيّار “المُستقبل” والحزب “الإشتراكي” ضُمن التركيبة التي برأيه تُحافظ على الخط الإستراتيجي للبنان وتؤمّن التفاهم الداخلي أيضًا. وبعد مُراوحة طويلة، قلب “إتفاق معراب” موازين القوى لصالح العماد عون، بفعل وُقوف “القوّات” إلى جانبه، وتصاعدت الضُغوط على الفريق المُقابل الذي رضخ على مضض في نهاية المطاف. لكنّ هذا الإنقسام العَمودي لعب دورًا كبيرًا في إفشال العهد الرئاسي مع مرور الوقت، بحيث وصل لبنان إلى الإنهيار الحالي المَعروف.
واليوم، يُمكن القول ِإنّ رئيس مجلس النوّاب الذي تعايش على مَضَض مع رئيس الجمهوريّة في البداية، بات مُقتنعًا أنّ العهد الرئاسي إنتهى، وبدأ ينسج الخطوط العريضة لمرحلة ما بعد رئاسة العماد عون. وأهداف رئيس المجلس الذي نجح في إستمالة كلّ من رؤساء تيّاري “المُستقبل” و”المردة” والحزب “الإشتراكي” وقوى وشخصيات أخرى إلى صفّه، تتجاوز مسألة تشكيل الحُكومة وفق مُعطيات تناسبه وتناسب الفريق الذي يُديره أو يتحالف معه خلف الستار، وتطال إستحقاقات رئيسة مُقبلة، وفي طليعتها الإنتخابات البلديّة والنيابيّة والرئاسيّة. وإذا تشكلّت حُكومة أم لم تُشكّل، وإذا كانت برئاسة الحريري أم شخصيّة أخرى، سيتصرّف رئيس مجلس النوّاب والفريق الذي معه، من مُنطلق رافض لأيّ أرجحيّة لفريق الرئيس و”التيّار الوطني الحُر”، مُستفيدًا من تدهور علاقات رئيس “التيّار” النائب جبران باسيل مع مروحة واسعة من القوى الداخليّة. والتكتّل السياسي غير المُعلن الذي صار رئيس مجلس النوّاب محوره، يعمل حاليًا على إعادة تكوين السُلطة وفق مَنطق “التحالف الرباعي” الذي جرى في مرحلة ما بعد العام 2005. وهذا التحالف يُخطّط لإنتخاب رئيس من إختياره، وحتمًا من خارج صُفوف “التيّار الوطني الحُرّ”، على أن يتعامل كل من “المُستقبل” و”الإشتراكي” مع التبدلات الإقليميّة بواقعيّة، أي أن يتخلّيا عمليًا عن التموضع السياسي الذي كان نقلهما في المرحلة الماضية إلى ضُفّة أخرى. وهذا التموضع السياسي الجديد سمح لرئيس مجلس النواب بإعادة إحياء تحالفه القديم، وبتسويقه لدى “حزب الله”، حيث ينحصر الخيار-برأيه، في المرحلة الحالية وكذلك في المُستقبل القريب، بين الإختلاف مع “التيّار” من جهة، أو مع أغلبيّة واسعة من القوى اللبنانيّة الداخليّة من جهة أخرى، ما يعني أنّ الإختلاف مع “التيّار” أقلّ سوءًا وضررًا!.
وإذا كان صحيحًا أنّ “التيّار الوطني الحُرّ” لا يزال حتى الساعة قادرًا على مُواجهة هذا المنحى، كونه يُمسك برئاسة الجُمهوريّة وبالعديد من المناصب الحسّاسة السياسيّة والعسكريّة والقضائيّة والإداريّة في الدولة، وكونه لا يزال يملك عددًا كبيرًا من النوّاب، فإنّ الأصحّ أنّ الفريق المُناهض للتيّار، يُراهن على طيّ هذه المرحلة بعد إجراء الإنتخابات النيابيّة وإنتهاء الولاية الرئاسيّة، وتحديدًا على فقدان “التيّار” لجزء كبير من “نقاط قُوّته” الحاليّة.
في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ رأي رئيس مجلس النوّاب تفوّق على رأي “حزب الله”، فأزيح حسّان ديّاب من رئاسة الحكومة، وجرى تكليف رئيس “تيّار المُستقبل” مُجدّدًا، وتم توفير الدعم له ليصمد بوجه ضُغوط رئيس الجمهوريّة و”التيّار”. ويُقال إنّه حتى لو إعتذر الحريري عن إكمال هذه المهمّة، فإنّ رئيس مجلس النوّاب والقوى المُتحالفة حاليًا معه، قادرون على مُواجهة أيّ مُحاولة للتيّار لفرض رأيه، خاصة وأنّ الإنقسام داخل الساحة المسيحيّة بلغ ذروته مُجدّدًا. والأكيد أنّ فريق برّي يُراهن أيضًا على قلب الطاولة كليّا على “التيّار” بحلول موعد الإستحقاقات الإنتخابيّة المُتعدّدة المُقبلة.