لا أحد يتحدث في العلن عن الرابط بين ملفات رفع الدعم والكابيتال كونترول وإطلاق العمل في المنصّة الالكترونية للتداول. لكن فكّ رموز التعاميم والقرارات التي يصدرها مصرف لبنان، بالإضافة الى طريقة تعاطي بعض السياسيين، يدفعان الى استنتاج وحيد، مفاده انّ البلد امام سلة جديدة من الإجراءات، هدفها المُعلن التعايش مع الأزمة بانتظار الحل، لكنها وصفة مفيدة أيضاً للانتخابات النيابية التي دخلت عامها الحاسم.
أعطى الكتاب الذي أرسله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى وزير المال غازي وزني أول اشارة رسمية الى وظيفة المنصّة الالكترونية لعمليّات الصرافة التي يُطلقها مصرف لبنان، والتي تبيّن انّها تهدف الى «تأمين ثبات القطع». هذه الوظيفة المُعلنة تدفع الى طرح علامات استفهام عدة منها:
أولاً- هل يمكن تثبيت سعر الصرف في هذا الوضع القائم، وهل هي سياسة نقدية ناجعة اليوم؟
ثانياً- هل يملك مصرف لبنان القدرة على ممارسة سياسة تثبيت سعر الصرف في ظل فقدان الثقة بالعملة الوطنية وبآفاق الحلول للأزمة؟
ثالثاً- هل المقصود بعبارة ثبات سعر الصرف تحديد سقف وقعر لسعر الليرة، ام انّه تثبيت متحرّك (floating)، يمكن ان يتماهى مع الوضع والضغوطات ضمن ضوابط مقدورعليها؟
رابعاً- ما هي مدة صلاحية مثل هذا الإجراء، والى متى قد يصمد ويستمر؟
خامساً- من هي الفئات التي ستستفيد من المنصّة، وهل سيلغي وجودها السوق السوداء القائمة حالياً؟
خارج اطار ملف المنصّة، والتي سيتحدّد فيها سعر صرف الدولار بحوالى الـ10 آلاف ليرة، لا تزال علامات الاستفهام مطروحة حول التعميم 939، والذي طلب فيه مصرف لبنان من المصارف تزويده بداتا مفصّلة، من دون اسماء، حول أرصدة الزبائن لديها بالليرة وبالعملات الاجنبية كما كانت في 13-10-2019، وكما أصبحت في 31-3- 2021. ولا تشمل المعلومات المطلوبة الحسابات المفتوحة بعد 31 تشرين الاول 2019.
أعطى البعض تفسيرات ملتبسة حول هدف هذا التعميم، منها انّ المركزي يريد معرفة التحويلات التي جرت الى الخارج، خصوصاً انّ الجزء الثاني من التعميم طلب معلومات عن أرصدة الودائع منذ 31-12-2015 وحتى 31-3-2021.
من خلال النموذج الذي أرفقه مصرف لبنان بالتعميم، يتضح انّ الهدف الرئيسي هو معرفة نوعية المودعين كما أصبحت اليوم. خصوصاً انّ هذه الوضعية التي كانت قائمة قبل ثورة تشرين 2019، قد تكون اختلفت كثيراً اليوم. في التقديرات، انّ عدداً كبيراً جداً ممن كانوا يُصنّفون صغار المودعين، (أقل من 5 ملايين ليرة، أو ما يوازيها بالدولار وفق السعر الرسمي) خرجوا من الجهاز المصرفي بعدما أغلقوا حساباتهم يوم قدّم لهم المركزي العرض (offer) بإمكانية تحويل أرصدتهم من الليرة الى الدولار ومن ثم سحبها على سعر مرتفع قياساً بالسعر الحقيقي الذي بلغته الليرة في تلك الحقبة، شرط اقفال الحساب. هذا الامر أدّى الى اقفال عشرات آلاف الحسابات في حينه. كذلك، واصل مودعون صغار لم يشملهم العرض، سحب ودائعهم بالدولار المُقنّن في البداية، ومن ثم بالليرة عندما توقف دفع الدولار. وبذلك سحب عدد كبير من هؤلاء كامل ارصدتهم.
من هنا، يسعى المركزي الى الحصول على المعلومات، في اطار إجراء حسابات دقيقة عن الرقم الذي يستطيع اعتماده في حال تقرّر السماح للمودعين بسحب كمية محدّدة من ودائعهم بالدولار وليس بالليرة، في اطار قانون الكابيتال كونترول. وستساعد دراسة وضعية الودائع وتوزعها على فئات (bracket) المودعين، في تحديد المبلغ الذي يمكن سحبه شهرياً بالدولار من قِبل المودع.
كل ذلك ينبغي ان يأتي في سلّة واحدة، ولو لم يتمّ الاعلان عن هذا الرابط. أي انّ الكابيتال كونترول سيسمح للمودعين بسحب دولارات حقيقية، والمنصّة ستحدّد سعر الصرف بـ10 آلاف ليرة، وسيتمّ استخدامها لتأمين دولارات الاستيراد، والبطاقة التمويلية ستغطي حاجات من لا يملك دولارات او أرصدة في المصارف ليسحب منها. وفي الموازاة، سيتمّ رفع الدعم الذي بدأ تطبيقه عملياً من دون اعلان رسمي.
يبقى السؤال الأهم في هذا المشروع: من وكيف سيموّل هذه السلّة، ومن اين ستأتي الدولارات لتثبيت سعر صرف المنصة، واعطاء دولارات للمودعين؟
الجواب، انّ مصرف لبنان، ومقابل وقف الدعم، سيخصّص مبلغاً للتمويل، وكذلك المصارف ستتولّى تمويل قسم من المشروع، لاسيما ما يتعلق بدفع دولارات حقيقية للمودعين.
هذه هي الوصفة السحرية المتوافق عليها ضمناً، وهي تحظى بموافقة قوى سياسية تريد بأي ثمن تقديم شيء ما للناخبين، بعدما دخلت البلد رسمياً في العام الانتخابي. لكن ضمان نجاح هذه السلّة الملتبسة في التوقيت والأهداف والنتائج، يدفع الى الذعر من احتمال الفشل، لأنّ فشلها سيؤدي الى انفجار اجتماعي غير مسبوق، وقد لا ينتظر الجائعون موعد الانتخابات للتغيير، فينزلون الى الشارع على غرار ما حصل في كانون الاول 2001 في بوينس ايرس، عندما نزل الارجنتينيون الى الشارع يهتفون بصوت واحد بالاسبانية Que se vayan todos وهي العبارة التي اقتبسها ابناء الثورة في لبنان (كلّن يعني كلّن). يومها أسقط الارجنتينيون رئيس الجمهورية والحكومة، وحصلوا على التغيير لكنهم لم يحصلوا على الحل لأزمتهم، لأنّ من جاء بعد ذلك لم يكن على مستوى التحدّي. انّه نموذج يؤكّد انّ المطلوب ليس مجرد التغيير، بل التغيير نحو الأفضل.
(ملاحظة: المقال حُرِّر قبل صدور بيان مصرف لبنان الأخير).
المصدر : الجمهوريه – انطوان فرح