أصبح لبنان اليوم على قارعة خطوط التواصل الإقليمية والدولية. الأوضاع فيه تنذر باقتراب انفجار الوضع الاقتصادي والمالي مع اقتراب لحظة رفع الدعم، وسط فقدان كل الاهتمامات الخارجية به.
تقف القوى السياسية عاجزة عن مواكبة المخاطر المحدقة، ولا تبدو على قدر مسؤولية التطلعات. وفي الوقت الذي تتحرك فيه الأوضاع في المنطقة، وربما تتجه إلى تحولات وانقلابات في أحوالها وأوضاعها.. لا يزال لبنان غارقاً في جموده القاتل. ولا شك أن التطورات الخارجية تنذر بمتغيرات لا أحد قادر على التنبؤ بطبيعتها، ولا بمصلحة من ستصب. كما لا شك أن مآل تلك التطورات ستأخذ وقتاً طويلاً كي تتبلور، سواء كانت المفاوضات الأميركية الإيرانية، أو السعودية الإيرانية، إلا أن كل هذه القوى والدول قادرة على حفظ مصالحها وترتيبها، فيما لبنان غير قادر إلا على دفع الثمن.
إرضاء مستحيل للجميع
كانت المبادرة الفرنسية آخر ما يمثل مقومات الحفاظ على الاستقرار، بل والاحتفاظ ببارقة أمل، على الرغم من كل العطب الذي أصاب المبادرة، بسبب تغيّر الطروحات السياسية بمتنها. وخسرت فرنسا في لبنان، لأنها حاولت أن ترضي كل القوى الإقليمية المتناقضة والمتعارضة. حاولت إرضاء واشنطن وطهران والرياض وموسكو. وهذا أمر في السياسة مستحيل أن يتحقق. كما حاولت في لبنان أن ترضي الحريري وباسيل وحزب الله وعون. وهذا لا يمكن أن يتحقق. تلك السياسة أدخلت فرنسا في وضعية إجهاض المبادرة، وصولاً إلى التلويح بالعقوبات.. التي ستكون نتيجتها صفراً سياسياً، بغض النظر عن الدافع الشعبوي والانفعالي والمعنوي الذي يقف وراء هذا القرار. ولكن فرض عقوبات على الجميع، يساوي عدم فرضها. فالتعميم هنا يعني تجهيل من يتحمل المسؤولية.
لا أحد ينكر الفضل للمبادرة الفرنسية التي طرحت، والتي كانت في الأساس منطلقة مما سمعه ماكرون من الشباب اللبنانيين، الذين التقاهم يوم زيارته بيروت في السادس من آب. ما يعني أنها مطلب لبناني بصياغة فرنسية، ودعم فرنسي. وبالتالي، فإن ذلك لا يمكن أن يتساوى مع طروحات فرنسية حول تشكيل حكومة غير مكتملة المواصفات، أو ما نقل من همس فرنسي حول عدم ممانعة تشكيل حكومة سياسية رفضها الحريري. وبحال صحت هذه المعلومة، فهي تعني توجيه الفرنسيين ضربة جديدة لمبادرتهم. بل وتُسقط منطق العقوبات أيضاً. فسابقاً اعترض الفرنسيون على العقوبات الأميركية، التي اتهمومها بأنها أعاقت المبادرة الفرنسية، بينما تلجأ باريس اليوم للتهديد بالعقوبات!
الساحة الباردة
المطلب اللبناني لا يزال على حاله لمواجهة الاستعصاء الحاصل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فيما البلاد تنهار وسط عجز كامل عن معالجة الأزمات والحدّ من الإنهيار.
يواجه لبنان انهيارات متعددة على مختلف الصعد، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ومعيشياً. وهذا لا ينتج فقط عن افتقاد الحرفة السياسية، إنما بسبب افتقاد الرؤية الواضحة أو المشروع، وغياب القيادات الحقيقية القادرة على قيادة مثل هذا المشروع. هذا الواقع يضع لبنان على حافة الخطر الحارق، في ظل تراجع منسوب الاهتمام الدولي والإقليمي بمعالجة ملفاته، سواء في سقوط المبادرة الفرنسية أو بتجميد مفاوضات ترسيم الحدود، ربطاً بتراجع الدور والاهتمام العربي أو الإقليمي بالملف اللبناني، وتحويل لبنان إلى ساحة باردة أو أزمة باردة، لا تستدعي تدخلاً دولياً سريعاً ومباشراً. وهذا ما يؤكد عدم الاستجابة الدولية لعقد مؤتمر دولي لمعالجة الأزمة اللبنانية، نزولاً عند مطالبات البطريرك الماروني، بشارة الراعي.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن لبنان وعندما كان منكوباً بفعل انفجار المرفأ وتداعياته، استدعى اهتمام كل الدول والأمم، ولم ينجح في انتهاز الفرصة، لمراكمة حلّ سياسي يتوازى مع الحلّ الاقتصادي، والاستفادة من اللحظة ومن المساعدات المقدّمة. بينما اليوم لا أحد، بالتأكيد، سيعير اهتماماً بلبنان إلا من بوابة “المساعدات الغذائية والإنسانية”، وبعض الدعم للجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية الأخرى، للحفاظ عليه كساحة باردة، أو أزمة مبرّدة لا تستدعي التدخلات.
التغيير الكبير!
خطورة تبريد الأزمة تعني الاستمرار في الترهل والانهيارات، وعدم القدرة على إنتاج الحلول في ظل الاستعصاءات القائمة، والتي لا تنذر بإمكانية الخروج من الأزمة سياسياً. هنا لا بد من ترقّب خوف آخر ينتج عن الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، الذي سيكون معطوفاً على خطوة رفع الدعم. ما قد يؤدي إلى توترات في الشارع أو حصول انفجار اجتماعي كبير لا يكون أحد قادراً على لجمه أو ضبطه. وبحال حصل هكذا انفجار، حينها سيكون حتماً هناك خيار واحد، وهو الذهاب إلى تغيير سياسي كبير، ليس مضموناً أن يحصل بسلاسة وهدوء.