طوى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان المبادرة الفرنسية، بعدما جهدت باريس لإبقائها حية أبداً. لكن المعادلة معقّدة جداً لإيمانويل ماكرون، الذي أراد استخدام تحركه في بيروت وضغَطَ لتحقيق إنجاز ما، عسى أن يفيده هذا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة.
لبنان مسألة فرنسية
فالمعضلة اللبنانية والمبادرة الفرنسية فيه والضغط لتشكيل الحكومة، تحوّلت إلى مسألة داخلية فرنسية. حتى أن مسألة العقوبات الفرنسية أمست خاضعة لتجاذبات في الداخل الفرنسي، بسبب رفض قوى يمينية -على رأسها مارين لوبان- فرض عقوبات على أي شخصية مسيحية لبنانية تعرقل مساعي ماكرون.
ومعروف أن رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل يراهنان على مواقف لوبان، لإحراج الرئيس الفرنسي.
ولن تعلن فرنسا انتهاء مبادرتها في لبنان. فهي تصرّ على الإيحاء باستمراريتها، لكن ليس من خلال علاقتها بالقوى السياسية التي أريد تعويمها بعد تفجير مرفأ بيروت إلى اليوم. فحالياً تريد باريس الانتقال إلى مرحلة ثانية: الرهان على قوى المجتمع المدني.
وفي إطار “تكبيرها الحجر مجدداً”، استبدلت تسمية قوى المجتمع المدني المعارضة بقوى التغيير السياسي، التي ستراهن باريس عليها مستقبلاً في الاحتفاظ بعلاقات سياسية تجدد نفوذها في لبنان.
هشاشة وتدافع
لبنانياً كانت فرنسا “الأم التي لا تعرف أبناءها”. فمنذ اليوم الأول لإطلاقها المبادرة، إلى فشل مساعي الفرصة الأخيرة التي قادها لودريان، أكثرت باريس من التغيير في المواقف: من إسقاطها المداورة، فدعوتها لتشكيل حكومة غير مكتملة المواصفات، وإلى غير ذلك من التفاصيل، فوصلت إلى “درك” انشغالها وحصر اهتمام مسؤوليها بالترتيب لعقد لقاء بين سعد الحريري وجبران باسيل.
وقضى الغرق في هذه التفاصيل على المبادرة. فاللقاء–القمة، بناء على الانطباع الذي أضفته فرنسا على اللقاء بين الحريري وباسيل، هو الذي أطاح بالمبادرة. وهنا تظهر هشاشة سياسية تعود بداياتها إلى لحظة إعلان إيمانويل ماكرون عن دعوته إلى عقد اجتماعي جديد في لبنان. ثم غير موقفه أو صححه. وكان قبل ذلك ادعّى أنه قائد الثورة اللبنانية من شوارع مار مخايل بعيد انفجار المرفأ، فيما هو يعمل لإعادة إحياء الطبقة السياسية في اجتماع قصر الصنوبر، وتوجيهه كلاماً قاسياً للمجتمع المدني بأنه لم ينتج بديلاً.
من السذاجة القول إن فشل اللقاء بين الحريري وباسيل هو الذي أفشل المبادرة الفرنسية. فهناك أسباب جوهرية استراتيجية حالت دون إنجاحها. وتتداخل فيها عوامل أميركية وخليجية وأوروبية بأخرى لبنانية، تتجلى بالاستعصاء الناجم عن صراع الديوك اللبنانيين ومحاولة بعضهم إعادة تعويم نفسه: باسيل الذي يعتبر أن الحريري نجح بفرض نفسه على فرنسا، وأصبح ابن المبادرة. ثم نجح في فرض الفيتو على باسيل، الذي وجد في عرقلة تشكيل الحكومة ردّه الصاع صاعين للحريري، بمنعه من تشكيل الحكومة.
لقد أخطأت باريس في وضعها نفسها وسط مثل هذه المبارزة على الطريقة اللبنانية.
لقاءات لودريان الحزينة
واليوم لم يأت وزير الخارجية الفرنسي بجديد على صعيد الحكومة. فلم يبحث في مسألة التشكيل مع أي مسؤول التقاه. فقط استمع إلى ملاحظات رئيس الجمهورية، الذي أغدق في الحديث عن الميثاقية وغيرها، محملاً الحريري المسؤولية.
هذا فيما قال لودريان إنه لن يتدخل في أي تفاصيل، وفرنسا قامت بما يتوجب عليها، واللبنانيون يتحملون مسؤولية التبعات. ثم لمّح إلى أن المسؤولين عن التعطيل سيتعرضون لعقوبات.
وحسب معلومات، لم يكن اللقاء بين عون ولودريان إيجابياً ولا ودياً، بل تخلله بعض التوتر، وعدم اتفاق على أي من الطروحات. وهذا على عكس اللقاء مع الرئيس نبيه برّي الذي بدا ودياً بعض الشيء. على الرغم من أن الوزير الفرنسي أبلغ رئيس مجلس النواب الموقف نفسه، الذي أبلغه للحريري في لقاء عقده معه مساء الخميس.
وتؤكد المعلومات أن لودريان طلب من الحريري أن يكون اللقاء بعيداً من الإعلام، وتمنى عليه التكتم على انعقاده. وهذه أيضاً طفولية، تشبه مواقف فرنسية أخرى: كالانزعاج من الحريري بسبب عدم تلبيته رغبة باريس في لقاء باسيل.
لم يدخل لودريان في تفاصيل التشكيل مع الحريري. لكنه أسدى إليه نصائح بضرورة انجاز التسوية في ظل التطورات الحاصلة. وما كان يراد تحقيقه في اللقاء بين الحريري وباسيل، نصح لودريان الحريري بإنجازه، في محاولة أخيرة منه لإنقاذ المبادرة. لكن هذا لا يبدو واقعياً، وغير قابل للتحقق، إلا إذا حصلت معجزة دفعت الرجلين إلى تقديم تنازلات لا تبدو أنها تلوح في الأفق.