عندما جنّ جنون الدولار الأميركي في العام ١٩٢٣ من 2,40 مارك الى ٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠ (٢ ترليون) مارك بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، لم يلجأ محافظ البنك المركزي الألماني الدكتور جاليمار شاخت الى توزيع بطاقات تمويلية بالدولار من ما تبقّى من ادخارات أو احتياطيات الودائع بالدولار، ولا بالمزيد من طباعة ترليونات الماركات المحلية دون تغطية ما يفجّر التضخم الذي يأخذ من الأسر الألمانية الفقيرة باليسرى ما أعطاه لها باليمنى، في حيلة نقدية بشكل لعبة سياسية شعبوية لاجتذاب أصوات الناخبين، وإنما بديلا عن الحل التضخمي اختار الحل التالي:
بدل بطاقات تمويل دون انتاج أو تموين لاستهلاك سلع استيراد، أصدر «بطاقات انتاج» يقرضها البنك المركزي للمؤسسات الوطنية التي تعطي لموظفيها وعمالها العدد الذي يوازي قيمة ٨ ساعات عمل انتاجي، ويحصل الموظفون والعمال على الجزء الأكبر من أجورهم من هذه البطاقات لشراء السلع المعيشية والخدماتية التي أنتجوها والتي جرى توزيعها على مختلف المحال والسوبرماركات في مختلف الأسواق العامة وعلى مستوى كل المناطق. أي ان الموظف أو العامل عن طريق هذه البطاقات الانتاجية يستهلك ما ينتجه، بدلا من بطاقات في مساعدات «إنسانية» أو «إكراميات» تضخمية أو في «رشوات» سياسية لاجتذاب أصوات انتخابية أو لتجنّب انفجارات شعبية. حتى ان محافظ البنك المركزي الألماني، الذي بسبب هذا الابتكار الاقتصادي الخلّاق الذي يحوّل القوة العاملة من عالة الى منتجة، وصفته وسائل الإعلام العالمية في حينه بـ «الساحر» The Wizard الذي قاد مسيرة بلاده خلال أصعب وأقسى أزماتها، الى بر الأمان النقدي والمالي والاقتصادي وأعاد للعملة الوطنية الألمانية مكانتها وكرامتها.
وفي لبنان…
أمام ما نشهده اليوم من توقف آلات ووسائل الانتاج وتسريح جماعي للقوى المنتجة في عديد القطاعات الاقتصادية وتراجع كبير في التسليفات المصرفية (تقلص ٦٧٧ مليون دولار خلال الشهرين الأولين من هذا العام و3,6 مليارات دولا خلال الفترة نفسها من العام ٢٠٢٠) وهبوط الودائع (٢٨٨ مليون دولار خلال الشهرين الأولين من هذا العام و٧ مليارات دولار خلال الفترة نفسها من ٢٠٢٠) واستمرار العجز في ميزان المدفوعات (٧٥١ مليون دولار خلال الشهرين الأولين من هذا العام و٥٠٥ ملايين دولار خلال الفترة نفسها من ٢٠٢٠) والعجز في الموازنة العامة ( 2,616 مليار دولار خلال ٩ أشهر من العام ٢٠٢٠ و3,592 مليار دولار خلال الفترة نفسها من ٢٠١٩) بما جفف مصادر السيولة وأوقف عجلات العمل والانتاج، لا بد من حلول اقتصادية من خارج «الكتاب الكلاسيكي» و«المواد المعلبة» و«الاجراءات التقليدية» التي سار الرئيس الأميركي جو بايدن عكس اتجاهها الأسبوع الماضي في مشروع قدّمه للكونغرس وصف بأنه «الأكبر من نوعه منذ عشرينيات القرن الماضي»! يقضي بفرض زيادات ضريبية عالية من ٢٠ الى 39,6% على مكاسب الأشخاص الأكثر ثراء، وذلك من أجل دفع تكاليف خطته الجديدة لمساعدة العائلات المعوزة والفقيرة الأميركية.
فلا محافظ البنك المركزي الألماني الدكنور شاخت أو الرئيس جو بايدن موّل هذا النوع من المساعدات من الاحتياطيات المصرفية أو بالمزيد من طباعة العملات التضخمية وإنما بالوسائل والأدوات الانتاجية ولدعم معيشة العامل بانتاج العامل نفسه، أو بالضرائب التصاعدية على الثروات الكبرى لا سيما التي تحققت من أرباح تجهيزات ولقاحات التعافي من الوباء التي قالت عنها أخيرا احدى وسائل الإعلام «لقد كانت آلامنا أرباحهم، وهم حتى مع ضريبة الثروة المقترحة أكثر ثراء بالمليارات ممن كانوا عليه قبل الوباء»!
المصدر : اللواء – ذو الفقار قبيسي