منذ زمن بعيد كان من المفترض أن يُفتح النقاش العلمي والإقتصادي حول سياسة الدعم التي اعتمدتها حكومة تصريف الأعمال والتي شابها الكثير من العثرات والتعقيدات وغياب الضوابط وانعدام وحدة المعايير فضلاً عن تطبيق خطوات غير منظمة وغير مترابطة ومبعثرة، والأهم من ذلك كله هو تسهيلها للتهريب وفتح المجال أمام استفادة بعض التجار والمافيات في الدواء والطحين والمحروقات وسواها من القطاعات.
لقد هُدرت أموال بالمليارات من الدولارات لتحقيق المكاسب التجاريّة الخاصة لأصحاب المصالح والمنافع الذين بطبيعة الحال لا يرفّ لهم جفن في حال وصلت نسبة الفقر في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة وفي حال سقوط الطبقة الوسطى. المهم تحقيق الأرباح الماليّة الصافية وتعزيز النفوذ المركنتيلي الجشع على حساب الإعتبارات الإنسانيّة البديهيّة التي باتت مفقودة في هذه البلاد مع فقدان أبسط مقومات الكرامة والعيش اللائق بحدوده الدنيا.
المهم اليوم تحويل النقاش والبحث نحو المسلمات الرئيسيّة التي تتشكل بالدرجة الأولى من عنصر مركزي ألا وهو توفير الدعم المباشر للأسر المحتاجة وليس للتجار والمنتفعين، وهو ما يتطلب تجديد قاعدة المعلومات والبيانات المتوفرة حول ذلك والإسراع في إصدار بطاقات دعم تتوفر من خلالها الحاجات الاجتماعيّة والتموينيّة للأسر اللبنانيّة. وتقدّر كلفة هذا المشروع بنحو مليار دولار الذي يبقى من الضروري تأمينه من دون المس بما تبقى من إحتياطي في مصرف لبنان. ثمة قرض متوفر من البنك الدولي يمكن التفاوض معه بشأنه لبدء تنفيذه.
ولكن بمعزل عن كل تلك التفاصيل، ومشاهد البضائع المدعومة على الرفوف في دول عديدة حول العالم من دون وصولها إلى المستهلك اللبناني، ثمة ما هو أعمق من ذلك وأكثر تعقيداً. إنه يتصل بكيفيّة الفشل في إدارة الفشل. نعم، اللبنانيون فاشلون حتى في إدارة فشلهم.
إن حالة المراوحة القاتلة التي تعاني من عمليّة تأليف الحكومة الجديدة هي المثال الساطع على ذلك. كيف يمكن تصوّر وقوع إنفجار بضخامة إنفجار مرفأ بيروت وتستقيل الحكومة بعد وقوعه بأيام، ثم تمر الأسابيع والشهور الطويلة بدون تشكيل الحكومة؟ كيف يمكن تصوّر أن ثمة من ينام على فراشه من المسؤولين من دون أن يرّف له جفن ومن دون أن يسعى في كل الاتجاهات للخروج من الحلقة المفرغة؟
ألا تستحق كل الانهيارات والانكسارات المتتالية التي أصبحت بمثابة مشهد يومي في لبنان مقارباتٍ جديدة يمكن من خلالها النفاذ نحو تشكيل حكومة من الكفاءات التي تحظى بالدعم السياسي من المكونات الأساسيّة المتمثلة في المجلس النيابي (كي تنال الثقة وتنطلق في العمل) وتحظى في الوقت عينه بثقة الخارج الذي يُعوّل عليه لإخراج لبنان من حالة السقوط المريع التي يمر فيها.
ثمة إعتراضات جوهريّة على طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني ومرتكزات تكوينه لا سيّما لناحية تغليبه الجانب الريعي الإستهلاكي على الجانب الإنتاجي فضلاً عن الحقد التاريخي ضد قطاعي الزراعة والصناعة وإشاحة النظر عن قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يملك فيه لبنان كفاءات هائلة (والذي حققت فيه إسرائيل نجاحات باهرة للمناسبة) بموازاة التركيز الفوقي على الخدمات والسياحة والقطاعات الزبائنيّة.
إلا أن كل تلك الاعتراضات التاريخيّة لم تشق طريقها إلى تشكيل قوّة تغييريّة ضاغطة تتيح إعادة رسم سياسات إقتصاديّة أكثر عدالة وإنصافاً. ولكن مع كل ذلك، لم يسبق للبنان أن مر بهذين التردي والتدهور على مختلف المستويات الأخلاقيّة قبل السياسيّة والاقتصاديّة والإجتماعيّة والماليّة والنقديّة.
الانهيارات متلاحقة، والانكسارات متتالية، والفشل المتعدد الأوجه متواصل… أقله فلنقلع عن الفشل في إدارة الفشل، ولنحسن إدارة الفشل بشكل أو بآخر بإنتظار العودة إلى شكل من أشكال النجاح، وهو صعب المنال.