يحتدم اليوم السجال الإعلامي حول إمكانيات واحتياطي مصرف لبنان ودوره في ما سُمّي خطأ بـ”الدعم” للاقتصاد الوطني، من خلال سياسته النقدية والبحث عن خيارات سبل تمويل الدولة، بعد التمادي في “تغطيس” الجهاز المصرفي في تمويل عجوزاتها حتى غرق الجميع في مركب واحد.
فما هي إشكالية التمويل العام وأي خيارات متاحة؟ وأي أدوات للمصرف المركزي في تأمين التمويل، وبأي وسائل تحفظ سلامة الاستقرار النقدي المفترض أن يشكّل الهدف الرئيسي للمصرف المركزي؟ الإجابة تتطلّب من ناحية استعراض مختلف وسائل تمويل القطاع العام، ثم البحث بمهمة المصرف المركزي وأدواته في إدارة السياسة النقدية، ومنها تحديداً “الاحتياطي الالزامي”. ما كانت أبرز خيارات مصرف لبنان والقطاع المصرفي في السنوات الأخيرة؟ وكيف تترجم إنعكاسها اليوم؟
من المعروف إقتصادياً، أنّ مصادر تمويل رئيسية لأي عجز في مالية الدولة، تكون:
أولاً، زيادة الإيرادات الضريبية عبر زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وزيادة الرسوم. الضرائب المباشرة تكون أكثر عدالة كونها مرتبطة بقدرة المكلّفين وتشمل الضرائب على أرباح المؤسسات، الضرائب على الرواتب والأجور، الضرائب على فوائد الودائع المصرفية، والضرائب على إيجار الأملاك العقارية… وكلما كانت هذه الضرائب تصاعدية تراعي قدرة المكلّفين بها وتزيد العدالة الاجتماعية في التعامل معهم.
أما الضرائب غير المباشرة (مثل ضريبة القيمة المضافة على السلع) فتكون أقل عدالة، كونها لا تميّز بين قدرات المكلّفين وتضع عليهم نفس الأعباء بغض النظر عن اختلاف الامكانيات. وبما أنّها الأسهل للتحصيل بشكل تلقائي من قِبل المؤسسات التي تبيع المنتجات من دون امكانية التهرّب منها (خلافاً لضريبة الأرباح مثلاً) تستسهل البلدان النامية الاعتماد عليها، لا بل زيادتها كلما احتاجت الى تحقيق تمويل اضافي، من دون عناء التدقيق والتحقق والمتابعة للتحصيل.
ثانياً، اللجوء الى السلفات المباشرة من المصرف المركزي، أي طباعة النقد، وهو أسهل الطرق بالنسبة للدولة العاجزة مالياً والمتمادية في نفقاتها، ولكنه الأكثر كلفة نقدياً واجتماعياً، نظراً لتداعياته التضخمية.
ثالثاً، اللجوء للدين العام، أي في ما يتعلّق بلبنان إصدار سندات خزينة بالعملة الوطنية، والتي حتى لو اكتتب بها المصرف المركزي تكون أقل خطر تضخّم من سلفات الخزينة المباشرة، لأنّه يمكن للمصرف المركزي إعادة بيعها لامتصاص فائض السيولة وخطر التضخم عند الحاجة…
رابعاً، الدين الخارجي، أي في ما يتعلّق بدين لبنان بالعملات الأجنبية بإصدار اليوروبوند (فيما عالمياً يُعتبر الدين الخارجي فقط مجموع السندات المكتتبة من غير المقيمين)، وعادة ما يكون هذا الدين مغرياً للدول النامية، كونه بأقل فائدة من سنداتها بالعملة الوطنية (نظراً لفارق المخاطرة)، ولكنّ خطره أنّه لا يمكن للدولة إن كانت عاجزة عن التسديد عند الاستحقاق أن تلجأ إلى المصرف المركزي لطباعة العملة لتغطيتها وتحمّل التضخم بعدها، لأنّه لا يمكن للمصرف المركزي المحلي طباعة العملات الأجنبية.
أما المصرف المركزي، فهدفه الرئيسي الحفاظ على الاستقرار النقدي والقيمة الشرائية للعملة الوطنية. من هنا أهمية المحافظة على استقلاليته، تحديداً من وقع المالية العامة وحاجة تمويل الدولة ولجوئها الى المصرف المركزي لسد تراكمات عجزها المالي والانغماس في ديونها وسنداتها.
ومن أبرز أدوات السياسة النقدية: اعادة تمويل المصارف، الحسم واعادة الحسم، وضع سقوف للتسليفات، بيع وشراء السندات وفق حاجة إمتصاص السيولة، التدخّل في سوق القطع حفاظاً على المستوى المناسب لسعر الصرف وفق خيارات سياسة القطع، واعتماد الاحتياطي الإلزامي لضبط السيولة والحفاظ على نسبة معينة من الودائع غير قابلة للاستخدام من قِبل المصارف، وهي عادة تكون في حساب من دون مردود لدى المصرف المركزي.
وفي هذا الإطار، تنص المادة 76 من قانون النقد والتسليف، على أنّه “يخوّل المصرف المركزي، الإبقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف، وبين مهمته العامة المنصوص عنها بالمادة 70، صلاحية اتخاذ جميع التدابير التي يراها ملائمة، وخصوصاً التدابير التالية التي يمكنه اتخاذها منفردة او مجتمعة، او مع التدابير المنصوص عنها في الباب الثالث من هذا القانون:
أ- تحديد وتعديل معدلات الحسم وحدوده القصوى، وكذلك معدلات الاعتمادات الاخرى المجاز له منحها للمصارف وللمؤسسات المالية وحدودها القصوى.
ب- اللجوء للعمليات المشار اليها في المادة 75.
ج- شراء وبيع السندات في السوق الحرة وفقاً للمواد 106 و107 و108.
د- إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالاً (احتياطي ادنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والاموال المستقرضة التي يحدّدها “المصرف”، باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف اخرى ملزمة أيضاً بإيداع الاموال الاحتياطية هذه.
ويمكن للمصرف المركزي ان يعتبر، اذا رأى ذلك مناسباً، توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة، كجزء من الاحتياطي، حتى نسبة معينة يعود له امر تحديدها.
ولا يمكن المصرف المركزي ان يحدّد نسبة الاحتياط الادنى بأكثر من 25 بالمئة من الالتزامات تحت الطلب، وبأكثر من 15 بالمئة من الالتزامات لأجل معين.
وللمصرف المركزي أن يفرض نسباً مختلفة على فئات مختلفة من التزامات المصارف ضمن الحدود المذكورة في الفقرة السابقة.
وله كذلك في الحالات الاستثنائية، ان يفرض نسباً حدّية خاصة، دون التقيّد بالحدود الآنفة الذكر، على ما يزيد من هذه الالتزامات او من أي فئات منها عن حدّ معيّن او على الزيادة المحققة في هذه الالتزامات او في أي فئات منها بعد تاريخ معين.
هـ- الزام المصارف بأن تودع لديه اموالاً (احتياطا ادنى خاصاً) حتى نسبة معينة من الموجودات التي يحدّدها المصرف.
و- ان يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة، ودائع لقاء فوائد يحدّدها المصرف”.
إذاً، في لبنان معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع تحت الطلب هو 25%، والاحتياطي الالزامي على الودائع لأجل بالليرة أو العملات الأجنبية هو 15%. الاحتياطي الالزامي بالليرة اللبنانية يوضع في مصرف لبنان من دون فوائد. وقد عمد المصرف المركزي الى تشجيع المصارف على استخدامها لتأمين تسليفات قروض سكنية وللقطاعات، بفوائد مخفّضة، من منطلق المسؤولية الاجتماعية والمساهمة في السياسة الإسكانية التي يفترض أن تكون أساساً من مسؤولية الدولة ضمن سياسة إسكانية شاملة “دعماً” لتأمين حق المسكن بأقل الكلفة وأسهل الشروط للشباب بشكل خاص. ولكن في غياب قرار الموازنات على مدى 12 عاماً، كان هذا التدّخل الذي سمح للآلاف من العائلات بشراء المساكن بالليرة اللبنانية بفوائد مخفّضة.
إذاً “الدعم” يكون من موازنات الدولة وفي إطار سياسة الرعاية والتدخّل الاجتماعي، وليس من المصرف المركزي واحتياطاته التي هي جزء لا يتجزأ من ودائع زبائن المصارف، كأدة معتمدة للتأمين على حدّ أدنى من حقوق المودعين، ومنع المصارف من التصرّف أقلّه بهذه الاحتياطات! ولا سيما الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي لا يملك المصرف المركزي إمكانية تأمين بدائل عنه وطباعة عملته لأصحابه أي المودعين. أما وقد تمّ توجيه معظم توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية (التي كانت في بداية الأزمة حوالى 120 مليار دولار أميركي ولم تعد تتعدّى الـ 110 مليارات دولار أميركي) نحو تمويل القطاع العام، من خلال الاكتتاب بسندات اليوروبوند والتوظيف لدى المصرف المركزي بما يفوق الاحتياطي الالزامي (الذي يحظى أيضاً بفوائد في المصرف المركزي) بكثير، عبر شراء شهادات الإيداع بالعملات الأجنبية، فمن الجدير الاشارة الى أنّ مجمل التدخّل الذي كان يجري لضبط سعر الدولار/الليرة اللبنانية في السنوات الماضية بحدود 1507.5، ومجمل التمويل للاستيراد، وطبعاً السلفات بالعملات الأجنبية لمؤسسة كهرباء لبنان التي لامست الـ45 مليار دولار أميركي، كانت طبعاً بفضل كل هذه الدولارات الموظّفة لدى المصرف المركزي، وهي أساس الهوة بالعملات الأجنبية التي رُصدت لديه.
وبالتالي، من الضروري معرفة أنّ كل دولار كان يُصرف لم يكن من “دعم” الدولة بل من دولارات المودعين الموظّفة لدى المصرف المركزي، على أمل أن يكون تمّ الحفاظ على ما تبقّى أقله من إحتياطي الزامي، الذي لا يمكن التفكير بإمكانية إستخدامه سوى بوجهة واحدة، هي إعادته للمودعين- لو جزئياً ولو تدريجياً- لتأمين صموده بالحدّ الأدنى، الذي يفترض أن يكون محفوظاً أساساً لهم لهذه الغاية، خصوصاً مع الاستعدادات لموجة التضخم غير المسبوقة المتوقّعة، بعد توقف المصرف المركزي عن تزويد الأسواق بدولارات المصارف الموظّفة لديه، لتأمين الاستيراد للمنتجات الأساسية وفق سعر صرف الـ1500 ليرة، الذي لا يزال معتمداً للأدوية والقمح والمحروقات، بعد نفاد معظم الدولارات التي كانت تشكّل صمام أمان لسعر الليرة، والتمسّك بربطه بالدولار طيلة 22 عاماً، أي منذ قرار تحديد معدله عام 1997 بحدود 1507.5.
لقد موّل القطاع المصرفي ومصرف لبنان لسنوات الدولة والاقتصاد اللبناني، حتى في أدق الظروف وأكثرها صعوبة، وعمل بما كان لديه من صدقية محلية ودولية على استقطاب مدخرات اللبنانيين المقيمين والمغتربين ومدخرات المتمولين العرب، وأعاد ضخّها في السوق اللبنانية، إما تمويلاً للقطاعين العام والخاص، لا سيما القطاع العقاري، وإما دعماً لاحتياطي القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي.
صحيح انّ القطاع المصرفي لم يكن محايداً في إنجاز المكتسبات التي حقّقها إنعقــاد مؤتمر باريس 2 ، بل تميز بلعب دور اساسي وحيوي في آلية تخفيض خدمة الدين العام، وذلك إما بطريقة مباشرة عبر الاكتتاب بسندات خزينة بمبلغ يقارب 4 مليارات دولار بفائدة صفر في المئة، وهو مبلغ فاق إجمالي مساهمات البلدان الصديقة والشقيقة معاً، وإما بطريقة غير مباشرة، عبر الإسهام في خفض معدلات الفوائد بشكل ملموس في الاسواق، وبالاخص على سندات الخزينة اللبنانية.
لكن “الهندسات المالية” التي أخرّت انفجار الأزمة بعض الوقت، كان من تداعياتها إرتفاع حاد بمعدّلات الفوائد لاجتذاب الرساميل بالدولار، ايرادات كبيرة للقطاع المصرفي والمكتتبين، تخفيض خدمة الدين للدولة، كون الفائدة على اليوروبوند أقل منها على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. إلّا أنّها شكّلت في الوقت نفسه، مخاطرة، أدّت إلى تدهور جميع المؤسسات، من مالية عامة ومصرف مركزي ومصارف تجارية، وانعكست في النهاية على المودعين.
اليوم، سبل التمويل للقطاع العام استُنفدت، لا إمكانية لزيادات ضريبية تحسّن الايرادات في ظل إقتصاد “مخنوق”، ولا إمكانية إستدانة جديدة بعد إعلان تعثّر السداد، وخصوصاً في ظل التوقّف عن التفاوض مع الدائنين، والدولة مستمرة باللجوء الى المصرف المركزي لتلبية حاجاتها التمويلية بطباعة النقد وزيادة السيولة التي تُترجم بزيادة التضخم في غياب أي إصلاحات، وحتى السياسات النقدية غير التقليدية استُنفدت واستُنفدت معها معظم دولارات المودعين الموظّفة لديه عبر المصارف. فهل يعود لأصحاب الودائع أقلّه الاحتياطي الإلزامي المعلن أنّه لا يزال متوفراً؟ وهل تسعى الدولة لمخارج تمويل تتحمّل فيها للمرة الأولى “دعماً” فعلياً من قبلها وعلى مسؤوليتها؟
المصدر : الجمهورية – د. سهام رزق الله