لم يكن ينقص المشهد اللبناني العبثي سوى التخبّط الذي يسبق زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان. في بلد يفتقد إلى الأفق السياسي الواضح، بات كل تحرّك يُقاس بمستويات التصعيد لا الحل. ينطبق ذلك على زيارة رئيس الديبلوماسية الفرنسية، الآتي إلى لبنان، من قِبل الدولة الفرنسية العميقة، التي غالباً ما تقارب ملفات القرن الحادي والعشرين بمنطق استعمار القرن العشرين، وإن اتخذت أشكالاً ومقاربات أكثر «نعومة»، لتتناقض بالتالي مع المقاربات الأكثر عصرية، والتي تبدّت، في الحالة اللبنانية، مع خطاب الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي كان أكثر مرونة مع الطبقة الحاكمة في لبنان، برغم «الإهانات» التي تعرّض لها حين تمّ التعامل مع مبادرته التي أطلقها غداة انفجار الرابع من آب، بوصفها مجرّد فكرة يمكن تدويرها وأعادة تدويرها في سياق اللعبة السياسية التقليدية في لبنان.
بهذا المعنى، فإنّ زيارة لودريان، وما يرافقها من تسريبات عن عقوبات تطال الصف الثاني من المسؤولين اللبنانيين، تمثل المرحلة الأولى من اندفاعة «الدولة العميقة»، التي يبدو أنّها فرضت نفسها على الملف اللبناني على حساب الدوائر الأكثر عصرية في الإليزيه، وهو ما يستدعي استشراف مرحلة جديدة للحراك الفرنسي تجاه لبنان، ويتمثل في الانتقال من ديبلوماسية الاحتواء إلى ديبلوماسية المواجهة، وهو واقع سيتلمسه اللبنانيون بشكل مباشر وصريح ما أن يغادر الوزير الفرنسي مطار بيروت الدولي عائداً إلى بلاده بمخرجات لقاءاته اللبنانية، أو ربما قبل ذلك.
انطلاقاً من ذلك، يجوز اعتبار زيارة لودريان الفرصة الأخيرة، التي يفترض المنطق السليم أنّ القائمين على شؤون البلاد، ولا سيما المعطّلون منهم لعملية التشكيل الحكومي، سيلتقطونها، محاولين قدر الإمكان زجّ البلاد في دوامة العقوبات الفرنسية، التي لن تكون أحادية، كما يروّج بعض المستهدفين بها، وإنما ستكون المرحلة الأولى من سلسلة اجراءات عقابية تتجاوز فرنسا لتشمل كافة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الدول الأكثر مشاغبة على القرارات الأوروبية الموحّدة، على شاكلة المجر وغيرها.
لكن المنطق السليم هذا بات مفتقداً، في بلد بات كل شيء فيه يسير في سياق انعدام المنطق، لا بل في سياق العبث المدمّر، وبالتالي، فإنّ ما تروّج له الدوائر الفرنسية على انّه «الفرصة الأخيرة» قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى عبثيي السياسة اللبنانية، الذين يحاولون اليوم التقليل من أثر التحوّلات المرتقبة في السياسة الفرنسية تجاه لبنان، تارةً عبر الإشارة إلى عدم وجود اجماع أوروبي حول العقوبات الفرنسية، وطوراً من خلال جولات علاقات عامة كاريكاتورية، في محاولة للإيحاء بأنّ لا العقوبات الفرنسية ولا العقوبات الأميركية ولا غيرها من الإجراءات يمكنها أن تغيّر قيد أنملة من مقاربة التعطيل الهدّامة.
مع ذلك، لن يتأخّر الوقت حتى يكتشف الجميع أنّ زيارة لودريان ستكون محطة فاصلة، بين كونها الإنذار الأخير لإنعاش المبادرة الفرنسية وإخراجها من حالة الموت الاكلينيكي، قبل الذهاب نحو خيارات سياسية فرنسية أكثر تطرفاً، وإن كانت تدرّجية في طابعها، تتبدّى اليوم، أقله من حيث الشكل، في أنّ جدول أعمال رئيس الديبلوماسية الفرنسية ينحصر، مبدئياً، في لقاءين مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، وهو مؤشر سلبيّةٍ ستكون له مفاعيله السياسية المباشرة، خصوصاً أنّ القوى السياسية في لبنان استبقت الزيارة بتسريبات تفيد بأنّ لا جديد على خط التأليف الحكومي، وأنّ فرص الحل باتت بعيدة المنال منذ اللقاء العاصف بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري.
ما سبق يدفع إلى الاعتقاد بأنّ الوزير الفرنسي يأتي إلى لبنان بحكم مسبق، وهو أنّ الطبقة السياسية اللبنانية ليست مستعدة للتعامل بإيجابية مع الطرح الفرنسي، ما يجعل هذه الزيارة مجرّد خطوة شكلية قبل أن تنتهج باريس مقاربتها الجديدة.
وإذا ما فشلت الزيارة في تحريك الملف الحكومي، وهو المتوقع، يمكن الافتراض أنّ لبنان سيواصل السير في النفق المظلم، خصوصاً أنّ فشل المبادرة الفرنسية يعني أنّ الأزمة السياسية اللبنانية باتت تفتقد حرفياً إلى وسيط خارجي، يعوّض هستيريا المناكفات الداخلية، لا سيما أنّ فرنسا هي الطرف الوحيد الذي يمكن أن يضطلع بدور الوسيط، بالنظر إلى أنّ أولويات الأميركيين اليوم تنصّب على جانب آخر (ترسيم الحدود) – عدا أنّ واشنطن بمواقفها العدائية تجاه «حزب الله» لا يمكن أن تكون وسيطاً بأي شكل من الأشكال في حل الأزمة السياسية – وبالنظر أيضاً إلى محدودية الدور الروسي الذي يدرك جيداً هوامش ومساحات التحرك المتاحة بين موسكو وواشنطن وباريس على الساحة اللبنانية، علاوة على أنّ روسيا نفسها تقارب الملف اللبناني بمنطق تبعيته للملف السوري وليس العكس، وهو واقع لا تغيّره مظاهر موسم الحج اللبناني إلى مقرّ الخارجية الروسية.
كل ما سبق يعني أنّ الأزمة اللبنانية مرشحة للانتقال أكثر فأكثر من أزمة مستقلة، كان حتى الامس القريب حلّها ممكناً من خلال وساطة خارجية (فرنسية) بين اللبنانيين أنفسهم، إلى أزمة اكثر ارتباطاً بالمتغيرات الدولية والإقليمية، وهو أمر ينطوي على مخاطر كبرى، آخذاً في الحسبان أنّ ارتباط الأزمة اللبنانية بمآلات المفاوضات النووية يجعل الحل اللبناني من الناحية النظرية مرتبطاً بمتغيرات طويلة الأمد (باعتبار أنّ المفاوضات النووية نفسها قد تستغرق شهوراً)، في حين أنّ الانهيار الاقتصادي الذي نشهده اليوم، وبشهادة الجميع، لا بدّ أن يقارب بمدى زمني أكثر سرعة.
على هذا الأساس، فإنّ الكرة هذه المرة في أيدي اللبنانيين اكثر من اي وقت سابق، ما يعني أنّ ثمة فرصة قصيرة، مداها الزمني يُقاس بالساعات، لا بل بالدقائق، لالتقاط اللحظة الفرنسية الحاسمة، بما يستدعي اختراقاً، ولو بسيطاً، يمكن ان يعيد الحسابات إلى نقطة ما قبل التصعيد الأخير في اللهجة، بما يجعل زيارة لودريان مؤسِّسة لاستعادة المبادرة الفرنسية بدل اطلاق رصاصة الرحمة عليها… ولكن، في ظلّ العصفورية الوطنية التي نشهدها، فإنّ مثل هذه الحلول، وبرغم محدوديتها، تبدو أقرب إلى الخيال العلمي!