ترقص المنطقة على إيقاع حفلة سياسية صاخبة، وعلى الأرجح ستسفر في نهاية المسلسل عن انقلاب كبير من الوارد حصوله، وسنشهده بالبث المباشر، وهذا الإنقلاب من المتوقّع أن يُحدثَ بلبلة وتقلّبات ونوبات صرع وتغييرات جيوسياسية كبيرة، ومن المؤكد أيضاً أن هناك دول كثيرة ستفتتح خيماً للعزاء وأخرى ستبدأ بالإحتفالات، وفي صلب المشهد يقع لبنان حيث ينتظر النتائج ويستعدّ للإحتفالات والرقص والعزاء في آنٍ معاً.
تُشير المعطيات المتوفّرة إلى عودة جلسات “التقارب” بين السعودية وإيران في بغداد بُعَيد شهر رمضان، وهذه المرة ستأخذ صفة العلنية بعد جلسة سريّة عقدت في شباط الماضي. وتنطق الجلسات هذه المرة من أجواء إيجابية جداً عقب تصريحات محمد بن سلمان التي اعتبر فيها أن إيران “جارة” والتصريحات على المقلب الإيراني، والتي رأت في مواقف بن سلمان “تغييرات جوهرية”.
بالتوازي مع ذلك، تنشط المحادثات الإيرانية ـ الأميركية في فيينا. وبمعزل عن نتائج الإنتخابات الرئاسية الإيرانية المتوقّعة الشهر المقبل، يسود اعتقاد أن إمكانية الوصول إلى اتفاق بعد الإنتخابات متوفرة، نظراً للغطاء الممنوح للتفاوض من قبل أعلى مرجعية في طهران. والمفاوضات ستستكمل مسارها بمعزل عن نتائج الانتخابات أو هوية الرئيس الجديد، لكون الوصول إلى اتفاق “متوازن” أضحى مطلباً استراتيجياً وهدفاً لكلا البلدين.
في سوريا، مشهد التقارب هو نفسه. السعودية بعثت برئيس مخابراتها إلى دمشق حيث التقى بالرئيس السوري بشار الأسد، وثمة حديث عن قرب افتتاح طاولة نقاش سورية ـ سعودية لبحث كافة التفاصيل العالقة بهدوء وتأنٍ، على أن يُباشر العمل بالتفاهمات حين يصدر قرار فتح السفارة السعودية في دمشق، وهو قرار متوقّع حصوله عقب انتهاء شهر رمضان المبارك. وفي سوريا أيضاً دفع روسي صوب عقد لقاءات تركية ـ سورية، عطفاً على التبدّل الذي طرأ على السياسة التركية وخوضها غمار الإنفتاح على الدول التي خاضت معها جولات من القتال السياسي والعسكري. وهنا، لا بد من الإشارة إلى المسعى التركي عبر إرسال وفد إلى القاهرة لترتيب العلاقة مع النظام المصري. وفي اليمن الاتجاه هو ذاته.
إذاً، المنطقة على صورة انفراجات، ولا بد أن ينعكس ذلك كله على الحالة اللبنانية، إذ يتولى الجانب الروسي ترتيب المسرح السياسي اللبناني استعداداً للتغييرات الشاملة في المنطقة، وهنا، من المرجّح أن يستمرّ فصل الإنتظار الحكومي حتى تنضج الظروف. لكن السؤال: هل أن الإنتظار سيأتي بحكومة “متوازنة” أم يطيح بالتوازنات السائدة حالياً وعلى رأسها التكليف وصاحبه؟
إذاً، ثمة تقدير سياسي يصبّ في احتمال حصول انفراجات سياسية في المدى المنظور ستلفح الواجهة اللبنانية بنسمة، وذلك، يأتي عطفاً على زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، والتي يشاء البعض أن يربطها بالتطوّرات السياسية الحاصلة في المنطقة. إذ يسعى الفرنسي لاستثمار كل تلك الأجواء في مسعى أخير لتأمين اختراقة ما، ربطاً بانشغال “دول الفيتو” على الحلّ اللبناني بتطوّرات الإقليم، بينما آخرون من قماشة رجال السياسة وأصحاب القرار، لا يرون الزيارة إلا من منظار محاولة باريس ممارسة ضغوطات على الكتل السياسية لدفعهم صوب تقديم تنازلات “غير متوازنة”. وفي تقديرهم، أن لودريان قادم إلى بيروت، ليس بصفة وزير خارجية فقط، بل مبعوثاً من الرئيس إيمانويل ماكرون، وعليه، سيُطلق من بيروت إشارات سلبية ناحية الطبقة السياسية عطفاً على امتعاض ماكرون، الذي استبدل زيارته إلى بيروت بزيارة لوزير خارجيته صاحب “العصا” والمواقف المتشدّدة تجاه الطبقة السياسية. من هنا، بدأ أكثر من طرف يشيّع معلومات حول إمكانية أن يمضي لودريان قدماً حين يفتتح مسار العقوبات الفرنسية من بيروت، ما يعني أن باريس استبدلت الليونة بالتشدّد.
وعليه، سيكون يوم غد، والذي يليه، بمثابة امتحان للقوى السياسية الداخلية، فإما يجري تقطيع الزيارة بأقل أضرار ممكنة، أو سيُفتتح مسار سياسي جديد وتحت رعاية فرنسية، عنوانه معاقبة كل من تورّط في إفشال المبادرة الفرنسية والضلوع في تطيير إمكانية تأليف “حكومة مهمة” تتولى الإصلاحات.
ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري أضحى ضمن هذا الجو، وما وصله من الدوائر الفرنسية حيال زيارة لودريان إلى بيروت لم يطمئنه أبداً، لذا بادر إلى الإنقضاض باكراً على الزيارة من خلال إشاعة أنباء حول احتمالات اعتذاره. وطالما أن التقديرات في المنطقة قائمة عند حدوث انقلابات، فللحريري انقلابه أيضاً!
عملياً، رئيس الحكومة المكلّف بات في موقع انتظار نتائج زيارة الضيف الفرنسي، وما نجح به لغاية الآن هو تأمين موعدٍ له، والإلتباس الذي شاع قبل يومين حيال حصر الوزير الفرنسي لقاءاته بالرئيسين ميشال عون ونبيه بري سياسياً، والبطريرك الماروني بشارة الراعي روحياً، عُولجَ بعد تدخلات “لبنانية المصدر” وبمعيّة باريسية. إذ وبحسب مصادر عليمة، وسّع لودريان لقاءاته باتجاه الحريري والنائب جبران باسيل، بصفتهما معنيين رئيسيين بعرقلة تأليف حكومة “مهمة”. وفي حال قرّر لودريان إضفاء مزيدٍ من التوسعة، فأكثر ما يمكن أن يحصل هو إجراء لقاءات في قصر الصنوبر مع موفدين يمثلون الأحزاب الممثّلة في البرلمان، لكن هذا الطرح ما زال موضع درس.
الأهم الآن، أن رئيس الحكومة المكلّف ينتظر نتائج زيارة لودريان للبناء عليها، فإن تأكّد له أن الأخير حضر إلى بيروت على نية توزيع قرارات عقابية بحق المعنيين بملف التأليف، أو المحسوبين عليهم، وتوزيع مسؤوليات واتهامات حول المسؤولين عن عرقلة التأليف، ومن بينهم هو، فسيجد نفسه في حلٍ من أي استمرار في مهمته، على قاعدة أن الحدّ من الخسائر لأفضل بكثير من الإستمرار في إدارة مؤسّسة تخسر يومياً، وسيعتبر أن الغطاء الفرنسي قد فُقد، وبالتالي، ليس من داع للإستمرار في “المهمة”. وهذه الأجواء عملت أوساط تيّار “المستقبل “، على تعميمها خلال اليومين الماضيين، وقد أشارت إلى أن الحريري غير متمسّك بالتأليف، وهو ما يوحي بأن فكرة الإعتذار التي كانت مستحيلة في السابق باتت واردة الآن، وبدفع مُضمر من كتل سياسية حليفة له، على رأسها رؤساء الحكومات السابقين، الذين لم يجدوا حرجاً في القول داخل مجالسهم أن البقاء في التأليف، وفي ظل هذا العهد، لم يعد يجدي نفعاً.
وكما هو ظاهر، تبدو أسباب الحريري، في حالة الإعتذار، خارجية أكثر من كونها داخلية، وهو ما ينقض كل كلام سابق حول عدم علاقة الخارج بمسار تأليف الحكومة الجديدة.
نظرياً، قد تُسهم خطوة الحريري، ولو أنها تأتي من أسباب خارجية، في إراحة الداخل عبر إتاحة المجال لشخصية أخرى لتولّي تأليف حكومة المطلوب أن يكون تأليفها سريعاً. مع ذلك، فاحتمالات العودة إلى العرقلة ما زالت واردة، إذ أن الحريري قد يعود لاستنساخ تجارب الماضي و أساليب تعامله السابق مع المرشّحين من خارج شوره السياسي وصولاً لإسقاطهم.
وبمعزل عن كل هذه النظريات، ما هو ثابت الآن أن الحريري لم يقلب الطاولة بعد على الرغم من أنه بات جاهزاً لإتمام الخطوة ربطاً بالموقف الفرنسي. في الصورة الخلفية للمشهد نشطت الإتصالات في محاولة لفهم ما مدى صحة ما يُشاع عن اعتذار الحريري، وفي المشهد أيضاً أطرافٌ، من بينها “الثنائي الشيعي” تدفع الحريري للتريّث، لكن وإذا وقعت الواقعة، فلكلٍ حادثٍ حديث.