يعيش المواطن اللبناني منذ تشرين الأول 2019 في ظل إستنسابية كاملة في التعاطي معه من قبل المصارف اللبنانية حيث يطبق النافذون عمليات تحويل إلى الخارج وسحوبات نقدية بالعملة الصعبة في حين أن المودع العادي لا يستطيع القيام بها بحرية وهو ما يُشكّل عملية كابيتال كونترول «شاذة» مُرفقة بعملية إقتطاع على الودائع من باب سعر صرف الدولار على السحوبات النقدية. هذا الواقع المرّ يفرض وضع «كابيتال كونترول» علمي محترف يؤمن العدالة في المعاملة كما نصّت عليه مُقدّمة الدستور أي التساوي أمام القانون ولكن أيضًا قدسية الملكية الفردية.
عاد «الكابيتال كونترول» إلى الواجهة في الأسابيع الماضية بعد ما يُقارب العام بعد فشل الاتفاق على مشروع مع صندوق النقد الدولي. وقد تمّ تسريب صيغة مشروع قانون «الكابيتال كونترول» في صيغته النهائية، وفي أغلب الظن أنه لدسّ نبض ردود الفعل والإعتراضات عليه وبهدف تسويقه أمام رأي عام لا يعلم بالضرورة ماهية وهدف الكابيتال كونترول عامة وإذا ما كانت الصيغة الحالية ستسمح بحماية أموال المودعين أم لا. وبالتالي سنعرض فيما يلي ما يقوله العلم عن ضوابط رأس المال قبل الحديث عن صيغة المشروع المطروح.
الكابيتال كونترول في علم الاقتصاد
ضوابط رأس المال أو ما يُعرف بالـ «كابيتال كونترولز» هي عبارة عن مجموعة من الإجراءات داخل حدود بلد مُعيّن تفرضها الحكومة بهدف تنظيم تدفّق رؤوس الأموال من الداخل إلى الخارج. وقد تشمل الإجراءات:
– البيئة الإقتصادية عادة بهدف تفادي الـ «delocalization»، أو منع خروج بعض الصناعات الاستراتيجية (النووي أو التكنولوجيا)، أو فرض عقوبات…
– البيئة المالية خصوصًا القطاع المصرفي وذلك بهدف تجنب خروج كبير لرؤوس الأموال نتيجة أزمة في البلد أو نتيجة خطّة مُعيّنة قد تضعها الحكومة بهدف دعم الاقتصاد…
وتسري هذه الإجراءات على كل التدفقات المالية أو بحسب طبيعتها مثل تحويل الأموال، الإستثمارات (قصيرة أو طويلة الأمد)، الديون (قصيرة أو طويلة الأمد)، سحب الأموال النقدية، الحدّ من المضاربة على العملة الوطنية مع تثبيت سقف مسموح به للبيع…
هناك تضارب بالأراء حول إذا ما كان الكابيتال كونترول مفيداً أم لا، وفي أي إطار يُمكن إستخدامه؟ فعلى الرغم من أن الكابيتال كونترول كان جزءاً لا يتجزأ من نظام «Bretton Woods»، إلا أن سبعينات القرن الماضي شهدت ثورة الإقتصاديين الليبراليين حول الضرر الكبير الذي يُشكّله وضع مثل هذه الإجراءات على عمل السوق الحر. وعلى هذا الأساس كان لبعض الدول الغربية (الولايات المُتحدة، بريطانيا…) مواقف منتقدة لضوابط رأس المال. والمُلفت في الأمر أن
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أخذا مواقف مُناهضة للكابيتال كونترول وهو ما يذهب بإتجاه نظريات إقتصادية ليبيرالية عديدة تدعم العولمة خصوصًا على الصعيد المالي وعلى صعيد الإستثمارات.
بالطبع في الإقتصادات المُوجّهة حرية تنقل رؤوس الأموال هو أمر غير متوفّر بالضرورة وبالتالي غابت الإستثمارات العالمية عن البلدان ذات الطابع الشيوعي نظرًا إلى التقييد على رؤوس الأموال ولكن أيضًا خوفًا من عمليات التأميم.
بعض الإقتصادات الحرّة في العالم إعتمدت «الكابيتال كونترول» على إثر أزمات مالية أو إقتصادية مثل الأزمة الأسيوية في تسعينات القرن الماضي أو الأزمة العالمية في العام 2008، أو الأزمة القبرصية في العام 2013، أو الأزمة اليونانية في العام 2015، لفترات قصيرة كان هناك إجراءات حكومية للسيطرة على الأزمة.
حرّية تنقل رؤوس الأموال، في ظل شراهتها وجبنها، جعلها مصدراً للأزمات بحدّ ذاتها وبالتالي تمّ إتخاذ إجراءات إحترازية من قبل الحكومات بالتوازي مع سياسات الاقتصاد الكلي كوسيلة لتخفيف آثار التدفقات المتقلبة على اقتصادات الدول. الجدير ذكره أن واحدة من التعقيدات التي تفرضها حرّية تنقل رؤوس الأموال هي ما ينصّ عليه مثلّث عدم التوافق (impossible trinity): لا يُمكن الحصول على حرية تنقّل رؤوس الأموال، وسعر صرف ثابت، وسياسة نقدية مُستقلّة في آن واحد. هذا الأمر لا يعني أن حرية تنقّل رؤوس الأموال هي غير جيّدة، لا بل على العكس، عدم وجودها يحرم البلد من رؤوس الأموال التي تُعتبر المُحرّك الأساسي للنمو الاقتصادي (مثال تركيا).
عمليًا، إقرار قانون كابيتال كونترول يطال القطاع المالي، يجب أن يأتي في ظلّ خطّة حكومية تكون فيها مُدّة العمل بالقانون قصيرة وذلك بحكم أن الهدف هو لجم حركة رؤوس الأموال الناتجة عن الذعر من أزمة مُعيّنة على أن تُعالج الخطّة الحكومية أسباب الأزمة وتُخفف من مخاوف أصحاب رؤوس الأموال.