بات مؤكّدًا أنّ مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل ستُستأنف الأسبوع المقبل، مع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن توجّه فريق الوساطة إلى بيروت في الثالث من أيار المقبل للمشاركة في المحادثات. ما الجديد الذي طرأ وحرّك جمود الملف بعد خمسة أشهر على تعليق المفاوضات؟
في الداخل اللبناني سبقت استئناف المفاوضات حفلة مزايدات حول تعديل المرسوم 6433، من خلاله عدّل الجيش بالخريطة التي أرسلها لبنان إلى الأمم المتحدة عام 2011. مستندًا إلى قانون البحار أكّد الجيش بالخرائط والمستندات أنّ المساحة التي تدخل ضمن حدود لبنان لا تقتصر على 860 كيلومتراً مربعاً، بل تضاف إليها مساحة تبلغ 1430 كيلومتراً مربعاً.
قوّة الدراسة التي قدّمها الجيش بشقّيها التقني والقانوني أربكت الوفد الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي المساند، فتمّ إلغاء الجولة الخامسة من المفاوضات التي كانت مقررة في 2 كانون الأول الماضي. المرسوم لم يرسل إلى الأمم المتحدة لتصويب الترسيم السابق الخاطىء، بعدما نشأ نزاع حول حاجته لجلسة حكومية، بعد توقيعه من وزيري الدفاع والأشغال ورئيس الحكومة حسان دياب، وإرساله إلى رئيس الجمهورية ميشال عون الذي رفض توقيعه بشكل استثنائي “لوجود ثغرات دستورية” ربطها باشتراط الوزراء موافقة مجلس الوزراء مجتمعًا.
بعدها اقترح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل رسم خط جديد مغاير للخط الذي رسمه الجيش، يقع ما بين الخط الذي رسمه الوسيط الأميركي السابق فريدريك هوف وهو الخط الذي قضم من حقوق لبنان لصالح إسرائيل، وبين الخط الذي توصّلت إليه قيادة الجيش ويتطلّب تعديل المرسوم 6433، كما اقترح باسل استثمار الآبار المشتركة، وانتزاع رئاسة الوفد من قيادة الجيش وتسليمها لممثل عن رئيس الجمهورية.
نظرية باسيل لم تلق استحسان الأفرقاء بمن فيهم حليفه الوحيد، وقد وضعتها أوساط مراقبة بأنّها تصب في إطار إرساله إشارات للإدارة الأميركية الجديدة، علّها تستجلِب رفعًا للعقوبات الأميركية المفروضة عليه.
الخبير الإستراتيجي العميد المتقاعد ناجي ملاعب يرى أنّ تناغمًا ما حصل مع ديفيد هيل وأدى إلى استئناف المفاوضات، متخوفًا في حديث لـ “لبنان 24” من بيعة حصلت أو “deal ” لا يصبّ في مصلحة لبنان “لأنّ استئناف المفاوضات قبل تعديل المرسوم وإرساله إلى الأمم المتحدة وفي هذا الجو تحديدًا، يحمل خطرًا يتمثّل في ضياع الثروة البترولية كاملة، كون الثروة الكبرى موجودة في الجنوب، بعدما تبين أنّها في البترون بحاجة إلى حفر لغاية 1400 متر تحت سطح البحر، والإنتاج لا يغطي كلفة الحفر إلى هذه الأعماق، في حين أنّ الحقل اللبناني في الجنوب في البلوك التاسع يختزن ثروة تضاهي ثلاث مرات ثروة حقل كاريش التي تقدّر بـ 15 مليار دولار”.
يستغرب ملاعب عدم الوقوف صفًا واحدًا خلف الجيش في مقاربته القانونية التقنية، التي من شأن اعتمادها إيقاف الشركة اليونانية “إنرجين” عن التنقيب في حقل كاريش انطلاقًا من عدم إمكان التنقيب في منطقة متنازع عليها ، وإحراج الإسرائيلي وجعله يستعجل التفاوض.
يضيف ملاعب “لو أبلغنا الأمم المتحدة لأصبحت هذه الحدود ورقة تفاوضية على أسس جديدة، وحينها يمكن أن يحصل تنازل من جانبنا في التفاوض، ولكن بعدما نكون قد أثبتنا كامل المساحة التي تدخل في إطار حدودنا في المنطقة الإقتصادية الخالصة”.
يوضح ملاعب أنّ التقرير التقني الذي أنجزه الجيش وتبنّاه الوفد اللبناني في الترسيم، انطلاقًا من الخط 29 ينسجم مع القانون الدولي، استنادًا إلى معيارين، الأول الإتفاقية الفرنسية- البريطانية عام 1923 بعد سايكس بيكو، بحيث تمّ وضع نقاط حدودية وتحديد خطوط دولية، وبناءً عليه “تبدأ الحدود في البحر المتوسط من نقطة تسمى رأس الناقورة” كخط فاصل بين فلسطين ولبنان، في عام 1924 أُرسل هذا الاتفاق إلى عصبة الأمم للإقرار به دولياً، وفي 6 فبراير شباط تمّ إقرار الاتفاق والمصادقة عليه دولياً، وبالتالي خط ترسيم الحدود اللبنانية يجب أن يبدأ من رأس الناقورة نزولاً بخط مستقيم. والمعيار الثاني هو قانون البحار الدولي الذي خالفه الجيش الإسرائيلي، بحيث دفع حدوده شمالًا بمسافة 32 مترًا داخل حدودنا، وانطلق منه بخط مباشر صعوداً كخط لترسيم الحدود البحرية، ما أدى إلى خسارة 1700 كيلومتر مربع. استغل الإسرائيلي وجود صخرة قرب رأس الناقورة اسمها “تخليت” اعطاها كامل التأثير وانطلق منها في الترسيم، معتبرًا أنّها جزيرة بما يخالف القانون الدولي، فللجزيرة مواصفات في القانون الدولي، وهي أن تكون مأهولة وقابلة للسكن، ولها حياة اقتصادية، وفي الواقع لا تتوافر الشروط فيها وفق المادة 21 من القانون الدولي للبحار. ورغم أنّها ليست جزيرة بالمفهوم القانوني والعملي الواقعي، اعتمد الإسرائيلي خطًا بدأ من الجزيرة مقابل حيفا، بحيث يصبح الخط مائلًا أكثر ناحية البر منها إلى رأس الناقورة ، مما قضم من منطقتنا كل تلك المساحة. من هنا حدود لبنان هي بالإنطلاق من نقطة رأس الناقورة، وهو ما فعله الجيش باعتماده الخط 29 بدل الخط “23.
ما قامت به مصلحة الهيدروغرافيا في القوات البحرية في الجيش بتصويب الحدود البحرية يستوجب تعديل المرسوم، وإرسال نسخة إلى الأمم المتحدة ممهورة بتوقيع وزارة الخارجية اللبنانية.
برأي ملاعب “قضية سيادية بحذا الحجم لا يجب أن تقف عند كل هذه الآليات، كان يمكن للحكومة المستقيلة أن تعدّل المرسوم وترسله إلى الأمم المتحدة، خصوصًا أنّنا بظروف استثنائية، ثم يُعرض لاحقًا على الحكومة المقبلة على سبيل التسوية، وهو إجراء اعتمد سابقًا”.
بأي حال سعي البعض لزج قضية بهذا الحجم السيادي في البازار السياسي لتحقيق منافع شخصية على حساب ثروة الشعب اللبناني والأجيال القادمة، يستوجب تحقيقًا جنائيًا ووطنيًا وسياديًّا وأخلاقيًا حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود، وتمسّك الوفد اللبناني بالخط 29 والتفاوض على أساسه من شأنه أن يحبط مرامي هذا “البعض”.