كتب علي نور في “درج”:
الذهنيّة التي تحكم التعامل مع هذا الملف تقوم على عرض الاستثمار المذهبي في سوق المصالح الإقليميّة والدوليّة، قبل البحث عما نريده من هذا المرفأ فعلاً.
مذ استردت الدولة اللبنانيّة ملكية عقارات المرفأ عام 1960، منحت امتياز تشغيل هذا المرفق الحيوي لمصلحة شركة “إدارة واستثمار مرفأ بيروت”، التي أدارته لحساب الدولة اللبنانيّة لنحو ثلاثين سنة، إلى أن انتهى هذا الامتياز في نهاية عام 1990، بالتوازي مع انتهاء الحرب ودخول البلاد في مرحلة إعادة الإعمار. في تلك الحقبة، كان يفترض أن تعمل الدولة اللبنانيّة على صياغة الأطر التشريعيّة والتنظيميّة الملائمة لتلزيم إدارة عمليات المرفأ واستثماره، بشكل واضح وشفّاف، وفقاً للنموذج الاستثماري الذي تريده لهذه التلزيمات. لكنّ الدولة اختارت في تلك المرحلة أن تبتدع نموذجاً هجيناً وغير مألوف لإدارة هذه العمليات، عبر تشكيل “اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت”. وعلى رغم أن هذه اللجنة، أتت تحت مسمّى “الحل الموقّت” للضرورات الملحّة، فقد استمرّت في إدارة شؤون المرفأ حتى هذه اللحظة، من دون أن تحكمها أو تقيّدها أي نصوص تشريعيّة أو نماذج رقابيّة واستثماريّة واضحة المعالم.
لم يعد الاستمرار بنموذج “اللجنة الموقتة” طوال 30 سنة، وتحويلها إلى حل دائم، مسألة عبثيّة. فاللجنة الموقتة سمحت للسلطات المتعاقبة بإدارة المرفأ واستثماره وتلزيم الخدمات فيه، والتحكم بعائداته الماليّة، من دون أي مساءلة أو محاسبة، وبهيكليّة إداريّة يسودها الغموض والفوضى وتضارب الصلاحيات وتعدد الجهات المسؤولة. وطوال العقود الماضية، ساد الغموض طريقة التصرّف بعائدات هذا المرفق، التي لم تخضع لا لرقابة ديوان المحاسبة ولا التفتيش المركزي، فيما بلغت عائدات المرفأ خلال تلك السنوات نحو 240 مليون دولار سنويّاً كمعدّل، من دون أن تستفيد الميزانيّة العامّة من أكثر من 40 مليون دولار منها.
لكنّ الاستمرار بهذا النموذج حمل أهدافاً أخرى، أبرزها توزيع صفقات الخدمات بالمفرّق من دون تنظيمه كمؤسسة، لإبقائه باباً من أبواب تحاصص خيرات المرفق العام. أمّا تنظيم المرفأ كمؤسسة واحدة وتلزيم تشغيله فظلّا مسألة معلّقة بانتظار الصفقة الكبرى التي لم تتبلور طوال العقود الماضية، فيما بدا أن هذه اللحظة آن أوانها بعد انفجار 4 آب/ أغسطس.
الكعكة المغرية دوليّاً
حين وقع انفجار 4 آب، كان الوضع محفزاً ليكون المرفأ كعكة مغرية للكثير من الأطراف الدوليين، وليكون ملف إعادة إعمار المرفأ ومن ثم استثماره وتشغيله موضوع تسابق بين هذه الدول. كما كان الوضع مناسباً لتقايض السلطة السياسيّة على هذا الملف، وتعرضه للبيع في سوق المصالح الإقليميّة والدوليّة.
فمن ناحية، كان السباق على مساحات النفوذ البحريّة على أوجّه على امتداد مساحات البحر الأبيض المتوسّط، بالتوازي مع التسابق على خطوط إمداد النفط والغاز، فيما مثّل وضع اليد على الموانئ البحريّة وعقد صفقات تشغيلها واستثمارها الأداة الفضلى لتثبيت نقاط الارتكاز لجميع الأطراف المتنافسين.
على السواحل الإسرائيلية، كانت الصين قد ثبّتت نقاطها جيّداً بعقود استثماريّة طويلة الأمد، في مرافئ أشدود وحيفا، ما منح الصين امتيازات كبيرة على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط. وعلى الساحل السوري، وضع الروس يدهم على مرفأ طرطوس، فيما يضع الإيرانيون عينهم على مرفأ اللاذقيّة للولوج إلى مياه البحر المتوسّط.
هذه الخريطة، وضعت الشاطئ اللبناني في مرمى المنافسة الدوليّة، خصوصاً بعدما بات الشاطئ الوحيد المتبقي لفرنسا لتثبيت نقطة نفوذ وازنة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط. مع العلم أن فرنسا كانت تخوض بدورها منافسة قاسية مع تركيا، التي استشعرت تضييق الخناق عليها بعد تشكيل منتدى غاز شرق المتوسّط برعاية ودعم فرنسي واضح، وهو منتدى استثنى تركيا واستهدف مد أنابيب غاز بحريّة تربط دول شرق المتوسّط غرب أوروبا من دون العبور بتركيا. في المقابل، كانت تركيا تسعى إلى استثمار نفوذها المستجد في ليبيا، عبر وضع اليد على عقود استثمار وتشغيل في موانئها.
هذه الظروف الدوليّة، كانت تفسّر الاهتمام الفرنسي السريع بملف المرفأ، وحرص الرئيس الفرنسي ماكرون على اصطحاب رئيس مجلس إدارة شركة CMA CGM الفرنسيّة في زيارته الأولى لبيروت بعد الانفجار، وفي الكثير من لقاءاته السياسيّة. مع العلم أن هذه الشركة كانت تنافس على عقد تشغيل محطة حاويات مرفأ بيروت نفسه، كما امتلكت حصّة في امتياز تشغيل محطة الحاويات في طرابلس، قبل أن تشتري لاحقاً كامل حصص الإمتياز هذا. أما اليوم فتطرح الشركة مشروع متكامل لإعادة بناء المرفأ وتشغيله واستثماره، فيما قررت الشركة أن تعتمد مرفأ طرابلس كمرفأ “إقليمي محوري”، وأن تضاعف ارتكازها على مرفأي بيروت وطرابلس في عملياتها. وفي أي حال، شاءت المصادفات أن يكون شريك الشركة الفرنسيّة في امتيازها الطرابلسي الرئيس نجيب ميقاتي، الذي لعب دوراً في تزكية مستشاره السابق مصطفى أديب ليكون الرئيس المكلّف تشكيل حكومة المبادرة الفرنسيّة بعد الانفجار.
بالسرعة نفسها، جاء الاهتمام التركي المتعلّق بإعادة إعمار المرفأ وتشغيله، لا بل أضافت تركيا إلى مقترحها مميزات إضافيّة من قبيل فتح باب استعمال المرافئ التركيّة خلال مرحلة إعادة الإعمار، وإعادة إعمار أجزاء من المساحات المدمرة في العاصمة بيروت. أما عرض الشركات الألمانيّة، واهتمام الشركات الروسيّة، فلم يظهرا إلا في الفترة الأخيرة، ربما لكون هذه الشركات انتظرت تبلور المشهد على مستوى المنافسين المحتملين في هذا الملف، أو لدراسة إمكانات المرفأ وطبيعة الأضرار التي لحقت به. لكن في كل الحالات، من الأكيد اليوم أن موقع المرفأ الاستراتيجي وظروف المنافسة على المستوى الإقليمي وضعت ملف إعادة إعمار المرفأ في حلبة التجاذب الدولي، وهذا ما تدل عليه اندفاعة الشركات والحكومات الأجنبيّة وعروضها المتتالية.
النظام السياسي بانتظار المقايضة
أدرك النظام السياسي في لبنان هذه الهجمة الدوليّة على الملف. كما أدرك أن وضع المرفأ الحالي يمثل عامل إغراء استثماري إلى جانب العامل الإستراتيجي، خصوصاً أن محطة الحاويات، المعروفة بإسم “المرفأ الجديد”، والمسؤولة عن 80 في المئة من العمليات، لم تشهد الكثير من الأضرار، وهو ما يعني أن الطرف الذي سينال حظوة استثمار وتشغيل وإعادة إعمار المرفأ سيكون قادراً على المضي بالاستفادة من عوائد العمليات خلال فترة قصيرة قبل استكمال بناء بقية أجزاء المرفأ.
لهذا السبب، بدأت السلطة تعد أوراقها للمقايضة، فكعكة بهذا الحجم ستسمح للأقطاب المحليين بإعادة تعويم أنفسهم دوليّاً، أو على الأقل المساومة على ملفات عدة، كالعقوبات أو التحقيقات الدوليّة التي تلوّح بها بعض الدول الغربيّة. ولهذا السبب بالذات، وفي ظل حكومة تصريف الأعمال، وبينما كانت مشاريع القوانين الداهمة مرميّة بالأدراج بانتظار تشكيل الحكومة الجديدة، أصرّ مجلس الدفاع الأعلى على الطلب من الأمانة العامة لمجلس الوزراء العمل على استكمال ملف مشروع قانون تشركة المرفأ، أي تحويله إلى شركة مساهمة، ليكون جاهزاً عند تشكيل الحكومة الجديدة. كانت هذه الخطوة مجرّد دلالة على استعداد السلطة للمقايضة على هذا الملف، واستماتتها للتمهيد له، خصوصاً أن الكثير من الملفات الأكثر حساسيّة كالكابيتال كونترول وآليات الدعم البديلة والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لم تحظَ خلال فترة تصريف الأعمال بهذا الإهتمام الرسمي. مع العلم أن ثمّة تساؤلات كبرى حول قانونيّة خطوة مجلس الدفاع الأعلى، إذ من غير المألوف أن يعمد المجلس – بحجة حالة التعبئة العامة- إلى التدخّل بشؤون حكوميّة من هذا النوع.
أخطر ما في الموضوع، هو أن الاستعداد لمرحلة تلزيم المرفأ، أو عرضه في المزاد الدولي للاستثمار، لا يتم اليوم وفقاً لرؤية شاملة تحدد الدور المطلوب منه في إطار نموذج اقتصادي واضح المعالم. لا بل يمكن القول أيضاً إن هذا الاستعداد لا يأتي في إطار خطة ماليّة تأخذ في الإعتبار الانهيار المالي الحاصل، ودور التدفقات الماليّة المتوقعة من مشروع كهذا في سياق هذا الانهيار. كما لا يدخل ملف إعادة إعمار المرفأ في سياق أي نظرة شاملة لعلاقة هذا المرفق الحيوي مع المدينة كمكان، ومع سائر المناطق اللبنانيّة في إطار العجلة الاقتصاديّة المحليّة. باختصار، المطلوب اليوم المساومة على ما يمكن تحصيله من هذا الملف لمصلحة أقطاب النظام السياسي، وهذا ما ظهر بالتحديد عند إطلاق المبادرة الفرنسيّة، حين قايض أقطاب النظام السياسي اهتمام الرئيس ماكرون بهذا الملف بعمليّة إعادة تعويمهم دوليّاً، ولو أن هذه المحاولة لم تنجح بعد تعثّر هذه المبادرة لاحقاً.
العروض المطروحة
حاليّاً، يبرز العرض الذي تقدّمت به الشركات الألمانيّة كأوضح العروض من ناحية التصميم والتخطيط والكلفة والعوائد، حيث يمتد المشروع على مساحة مليون 300 ألف متر مربع، بكلفة إجماليّة تصل إلى نحو 7.2 مليارات دولار، وبأرباح تتجاوز 30 مليار دولار. مشكلة المشروع الأساسيّة أنّه كان أقرب إلى مشروع سياحي عقاري، إذ يشمل تحويل مساحات كبيرة من المرفأ الحالي إلى مسابح وأبنية معدة لغايات سياحيّة، في حين أنّ مدّة التلزيم تتراوح بين 50 و99 سنة. بمعنى آخر، سيتم تحويل مساحات من هذه الأراضي إلى مشروع مشابه لمشروع “سوليدير”، الذي قام منذ التسعينات على فكرة تخصيص مساحات ضخمة وحيويّة من الأراضي لشركة عقاريّة خاصّة، لتطوّرها وفقاً لأهداف استثماريّة معيّنة. أهم ما في الموضوع، أن المشروع لا ينطلق من البحث عن ترابط المنطقة مع أي رؤية اقتصاديّة على المستوى الوطني، وهو ما نتج عن عدم امتلاك الدولة هذه الرؤية منذ الأساس.
المشروع الفرنسي، الذي تخطط له شركة CMA CGM، يبدو أقرب إلى الواقع، إذ تتراوح قيمته بين 400 و600 مليون دولار، ويركّز على الحاجات العمليّة الأساسيّة في المرفأ لإعادة تشغيله، ولا يحاول توسيع دور المرفأ ليتخطى الدور الأساسي الذي اضطلع به قبل الانفجار. لكنّ أهم ما في الأمر، هو أن المشروع الفرنسي لا يتضارب عمليّاً مع المشروع الألماني الأوسع، إذ يشير الخبراء إلى إمكان السير بالمشروع الألماني على المدى الطويل، مع تلزيم شركة CMA CGM، الجانب المتعلّق بعمليات المرفأ التقليديّة، أي محطات الشحن والخدمات المتصلة بها. مع العلم أن الشركة الفرنسيّة تبدو الأكثر سطوة من بين جميع الشركات المهتمّة بهذا الملف، بالنظر إلى علاقاتها المتشعّبة مع الأقطاب السياسيين اللبنانيين، والدعم التي تتلقاه من الرئيس ماكرون شخصياً.
على المقلب الآخر، تبدو الشركات الروسيّة والتركيّة حتى اللحظة في خانة الجهات التي أبدت الكثير من الاهتمام بالملف، من دون أن تقدّم حتى اللحظة تصوّراً كاملاً للمشاريع التي ترغب بالانخراط بها أو كلفتها. ولذلك، يمكن أن تسعى هذه الشركات إلى البحث عن عقود ثانويّة في عملية إعادة الإعمار، إذا لم تفضِ التسويات السياسيّة إلى تلزيمها عقد إعادة الإعمار والتشغيل الأساسي.
في كل الحالات، هذه المشاريع ما زالت حتّى اللحظة حبراً على ورق، ومن غير الممكن أن تسلك طريقها إلى التنفيذ قبل تشكيل حكومة جديدة قادرة على تحديد الأولويّات، وصياغة خطة ماليّة متكاملة يكون مشروع إعادة الإعمار جزءاً أساسياً منها. لكنّ الأكيد حتّى اللحظة، هو أن طريقة تعامل الدولة مع الملف بأسره لا تبشّر بالكثير من الاهتمام بدور المرفأ المطلوب في المرحلة المقبلة، أو طبيعة الخطط القادرة على النهوض بهذا الدور. أما الأهم، فهو أن الدولة شرعت بتعجيل الخطوات لتشركة المرفأ، والتمهيد لتلزيم إعادة بنائه وتشغيله، قبل أن تبادر إلى العمل على استراتيجيّة شاملة للموانئ اللبنانيّة، توزّع المهمات في ما بينها وتحقق التكامل وفقاً لإمكانات كلّ منها وموقعه، وتحدد دورها في النظام الاقتصادي ككل. كل ذلك يؤكّد أن الذهنيّة التي تحكم التعامل مع هذا الملف تقوم على عرض الاستثمار المذهبي في سوق المصالح الإقليميّة والدوليّة، قبل البحث عما نريده من هذا المرفأ فعلاً.