في موعدٍ يكاد يكرّسه “أسبوعيًا”، أطلّ رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل من دون مناسبة، السبت الماضي، في مؤتمرٍ صحافيّ خصّصه لتوزيع الاتهامات يمينًا وشمالًا، وقبل ذلك، الهجوم على جميع الأفرقاء دون تمييز، وعلى طريقة الشعار الذي لطالما “شكا” منه، أي “كلّن يعني كلّن”.
صحيح أنّ خطاب باسيل “أثلج صدور” أنصاره وجماهيره، ممّن باتوا يشعرون بـ”راحة نفسيّة” بعد كلّ إطلالة هجوميّة لرئيس “التيار”، ويعتبرون أنّه يغرّد وحيدًا في وجه “كلّ المنظومة”، متحدّيًا جميع أعضائها، متناسين أنّه بات “جزءًا أصيلاً” منها، بل ربما “الأساس” فيها، بعدما اختزل بشخصه “الحزب الحاكِم” لسنوات، أنهى فيها “إرث المعارضة”.
إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ خطابه المستجد، بعيدًا عن عبارات “التحريض والاستفزاز”، التي قد تكون “كذابين” الأهدأ على خطّها، وعن السياق “التصعيديّ المتشنّج” الذي حمله بين سطوره، لم يتضمّن أيّ جديد يُذكَر أو يمكن البناء عليه، وإنما أتى “نسخة مكرّرة”، وغير منقّحة على الأرجح، لما دأب على إعلانه منذ أشهر.
العناوين لم تتغيّر!
اعتقد كثيرون أنّ خطاب باسيل، الذي جاء مع مرور ستّة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة، يمكن أن يحمل جديدًا يُبنى عليه، وذهب بعض المتفائلين لحدّ التكهّن بـ”فحوى” مبادرة قد يعلنها الرجل، أو ربما “تنازلات” قد يُقدِم عليها بما يسمح بولادة الحكومة “العالِقة” منذ أسابيع طويلة، عند النقاط نفسها، التي تبدأ من الثلث المعطّل، ولا تنتهي عند من يسمّي الوزراء.
إلا أنّ الخطوط العريضة لكلمة باسيل، خارج “الشعبويّة” التي تسلّلت إليها، من بوابة ملفات القضاء ومكافحة الفساد، لم تكن سوى على شاكلة ما يلي: “لا نريد أن نشارك في الحكومة. يريدون النصف زائدًا واحدًا ويختبئون خلف الثلث المعطل. الثلث حقنا المشروع لكننا لا نريده. الرئيس المكلّف ليس اختصاصيًا ليترأس حكومة اختصاصيّين. حقنا أن نسمّي الوزراء المسيحيين، لا الرئيس المكلّف”.
هي العناوين نفسها، وبحرفيّتها، التي يكرّرها “العونيّون” منذ اليوم الأول لتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، من دون أن يترجموها عمليًا، حتى أنّه يخيّل للبعض أنّ هذه المقتطفات مأخوذة من أول خطاب لباسيل بعد التكليف، وليس من خطابه بعد ستّة أشهر، شهد فيها اللبنانيون “الويل والثبور وعظائم الأمور” بسبب عدم تأليف الحكومة، ولا يبدو أنّ “الفَرَج قريب” في ظلّ إصرار مختلف الفرقاء على “المكابرة”، كما لو أنّ شيئًا لم يكُن.
من هم “الكذابون”؟
لكنّ المفارقة في خطاب باسيل، بعيدًا عن مضمونه الذي يكاد يكون مُستهلَكًا ومكرّرًا حدّ الملل، يتمثّل في “حدّته”، ولا سيّما في حجم “التشنّج” الذي رُصِد على خطّه، حتى أنّ كلمة “كذابون” ضربت الأرقام القياسية، في عدد المرّات التي وردت فيها، في إشارة من باسيل إلى خصومه، الذين أوحى بأنّهم يشنّون عليه حملة “ظالمة”.
وفيما سارع “تيار المستقبل” إلى الردّ بالمباشر على باسيل، معتمدًا “استراتيجيّة” ردّ “الوصف” إلى مُطلقه، حيث اعتبر أنّ الكذب من شيم الكذابين والمتلونين والمطارَدين بعقوبات من الداخل والخارج، يرى كثيرون أنّ اتّباع باسيل لهذا الأسلوب يدلّ على “ضعف” لا “قوة”، خصوصًا أنّه يعمد إلى “رفع السقف” بهذا الشكل، من دون أن “يجني” شيئًا في المقابل، لا على خطّ الحكومة، ولا على أيّ مستوى آخر.
ويشير هؤلاء إلى أنّ “مشكلة” باسيل التي اختزلها في خطابه تكمن في أنّه لا يزال مقتنعًا بأنّ “المنطق” الذي يستند إليه يجد قبولاً لدى الناس، وكأنّ هناك اليوم، وفي ظلّ الواقع الاقتصادي والاجتماعي المأسويّ، من “يكترث” بثلث أو نصف من هنا، وحقيبة من هناك، ومن يسأل عمّن يسمّي الوزير المسلم أو المسيحيّ، فيما البلد برمّته على “كفّ عفريت”، بعدما بدأ “الانهيار الشامل”، ويوشك أن يقضي على الأخضر واليابس في طريقه.
“إنّهم كذابون”، يقول رئيس “التيار الوطني الحر”، فـ”يهيّص” جمهوره، ويشعر أنّه “فشّ خلقه”. يردّ تيار “المستقبل” فيتحدّث بدوره عن “كذابين ومتلونين”، لكن من شيمٍ أخرى، يشير من خلالها إلى باسيل نفسه. يفرح جمهور “المستقبل”، ويستنفر قياديّوه للحديث عن “دجل ونفاق وما شابه”. هو جوٌ لا يشبه “المأساة” اللبنانية، ولا يَشي سوى بأنّ الحكومة الموعودة أصبحت “في خبر كان”، سواء ألِّفت أم لم تؤلَّف!