يستمر مسلسل الانهيار في لبنان في رسم صور قاتمة لمّا سيحمله الغد. ولأننا ما زلنا نعيش مأزقاً سياسياً تمخض عنه شلل تام على كافة الصعد، يعود موضوع مجلس النقد بقوَّة إلى الواجهة الإعلامية، مع دعوة كل من جاك دو لاروزيير، العضو المنتدب السابق لصندوق النقد الدولي، ومحافظ بنك فرنسا المركزي بين عاميّ 1987 و1993، وستيف هانكي، أستاذ الاقتصاد التطبيقي بجامعة “جونز هوبكنز”، وجون غرينوود، كبير الاقتصاديين في شركة إدارة الاستثمارات الأميركية “إنفسكو”، السلطات اللبنانية المعنية لاعتماد نموذج مجلس النقد للجم الانهيار في المستقبل القريب.
في قلب العاصفة
انطلاقاً من المخاوف حيال وقوع لبنان فريسةً للانهيار الشامل، اعتبر الخبراء الثلاثة، في مقالةٍ مشتركة نُشرت في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، أن مصرف لبنان يقع في قلب العاصفة كونه يدير مجموعة غريبة من أسعار الصرف المتعددة ويغذي برنامج دعم ضخم. إذ تبلغ قيمة هذا الدعم لمدة عام، أربعة أضعاف ميزانية لبنان لعام 2021.
هذا بالنسبة للدعم، أما ما يتعلق بمعظم المواد المدعومة، مثل الوقود والمستلزمات الطبية والقمح، فيُسمح للمستوردين، كما بات معلوماً، بشراء الدولارات من مصرف لبنان بخصم يبلغ 88 في المئة عن سعر السوق السوداء. وتالياً يُسمح للمشاركين بتلك العملية بيع تلك الواردات بنحو ثمانية أضعاف ما كان عليهم دفعه مقابلها.
الدفاع عن مجلس النقد
وبما أن العديد من المنتجات المدعومة لا تجد طريقها أبداً إلى الأسواق اللبنانية. وغالباً ما يتم إعادة تصديرها أو تهريبها إلى البلدان المجاورة وبيعها بالدولار. ما يعني حكماً استنزاف الاحتياطيات الأجنبية لمصرف لبنان وتحويل هذا البلد إلى دولة مفلسة كفنزويلا. رأى الخبراء الثلاثة أن الخيار الوحيد الذي من شأنه أن يوقف أزمة العملة اللبنانية بشكل سريع هو مجلس النقد، أو ما يُعرف أيضاً باسم مجلس العملة.
يرتكز مجلس النقد على التزامٍ قانوني يُثبِّت سعر صرف العملة المحلية ويفرض قيوداً على سلطة الإصدار. ويتولى المجلس إصدار العملة بعد تأمين تغطيتها بالكامل باحتياطي من عملةٍ أجنبية محددة، تاركاً رسم السياسة النقدية لقوى السوق التي تمتلك العملة الورقية والودائع لدى المصارف.
لا يتمتع مجلس النقد، وفق الخبراء الثلاثة، بسلطات نقدية تقديرية، إنما لديه سياسة متعلقة بسعر الصرف. ذلك أن وظيفته الوحيدة هي تبادل العملة المحلية مقابل عملة ثابتة بسعر ثابت. كما يجادل الخبراء الثلاثة أن اتباع هذا النموذج لا يتطلب شروطاً مسبقة ويمكن بموجبه تثبيت العملة بسرعة. فلا تحتاج المالية الحكومية والشركات المملوكة للدولة إلى الإصلاح قبل أن يتمكن مجلس النقد من إصدار النقود. وللدلالة على صوابية ما يعرضوه من حجج، يشيرون أنه توجد مجالس عملات في حوالى 70 دولة. لم يفشل، حسب رأيهم، أيٌ منها.
أبرز تجارب الدول
ويعرض الخبراء في المقالة أبرز تجارب الدول التي عانت من أزمات وخرجت منها بعد اتباعها نموذج مجلس النقد. والتجربة الأكثر شهرة هي مجلس هونغ كونغ، الذي تم إنشاءه عام 1983 لمكافحة عدم استقرار سعر الصرف. فبالعودة إلى التاريخ، وصلت تقلبات السوق في هونغ كونغ إلى أبعاد أسطورية غداة الجولة الرابعة من المحادثات الصينية-البريطانية حول مستقبل الجزيرة. وانتهت الفوضى فجأة بعد بضعة أشهر بتأسيس مجلس النقد. وبمرور الوقت، نجا المجلس من عدد لا يحصى من الأزمات، حتى خلال الاحتجاجات السياسية الأخيرة في هونغ كونغ.
أما إستونيا التي لطالما اعتمدت الروبل الروسي المتضخم، ولم تكن قد وافقت بعد استقلالها الحديث على دستور ما بعد الاتحاد السوفياتي، فحققت بدورها الاستقرار الفوري بعد تأسيس مجلس عملتها في حزيران 1992 وإصدار الكرون الإستوني. وقد نالت هذه الخطوة ثناء صندوق النقد الدولي بعد الإعراب عن شكوكه الأولية.
وفي عام 1994، تبنت ليتوانيا المجاورة، نموذج مجلس النقد لقطع تمويل البنك المركزي للنفقات الحكومية. ونجح المجلس بفرض الانضباط المالي. وفي وقتٍ لاحق، أشاد صندوق النقد الدولي بالتحول والأداء الاقتصادي لليتوانيا باعتباره أحد أفضل الدول في الاتحاد الأوروبي.
وبعد أن واجهت بلغاريا تضخماً شديداً وأزمة مصرفية في عام 1997، عادت لتنهض مع تثبيت مجلس النقد في شهر تموز من العام نفسه، ما أوقف التضخم المفرط على الفور. وبحلول عام 1998، بدأ النظام المصرفي البلغاري بالانتعاش، وانخفضت أسعار الفائدة في سوق المال، وتحول العجز المالي الهائل إلى فائض، وتحول الكساد العميق إلى نمو اقتصادي، كما تضاعفت احتياطيات النقد الأجنبي في بلغاريا أكثر من ثلاثة أضعاف. واليوم، بفضل مجلس عملتها، تمتلك بلغاريا ثاني أقل نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي، بعد إستونيا.
وتضيء آخر التجارب التي تطرقت إليها المقالة، على تجربة البوسنة والهرسك مع مجلس النقد عام 1997، الذي اتُبع وفقاً لمّا نصت عليه اتفاقية دايتون- باريس للسلام التي أنهت الحرب الأهلية. وفي خضم الصراع العرقي والخراب الاقتصادي، قام المجلس بترسيخ الاستقرار، وهو شرط أساسي لإعادة البناء.
اللغط حول الأرجنتين
إضافةً إلى ما تقدم، ينوه الخبراء إلى ضرورة ملاحظة أن نظام قابلية التحويل في الأرجنتين (1991-2001) لم يكن مجلساً للنقد، وله الكثير من أوجه التشابه مع ارتباط لبنان بالدولار الأميركي (1997-2019). ففي كلتا الحالتين، تم ربط العملتين المحليتين بالدولار، لكن كان بإمكان مصرف لبنان والبنك المركزي الأرجنتيني الانخراط في الهندسات المالية والسياسة النقدية التقديرية، وكلاهما محظور بموجب مبادئ مجلس النقد.
ويختم الخبراء بالقول أن السبيل الوحيد لإنهاء كابوس لبنان هو عبر إنشاء مجلس نقدي. فكما أن تحقيق الاستقرار قد لا يكون كل ما هو مطلوب، إلاّ أنه لا يمكن تحقيق أي شيء من دونه.
اعتراضات على النظرية
والجدير بالذكر، أن فكرة إخراج لبنان من أزمته من خلال تأسيس مجلس النقد، شهدت نقاشات حامية بين مروّج ومؤيد، وبين معترض على الطرح برمته (راجع “المدن”). ومن أبرز المعترضين كان وزير المالية السابق جورج قرم، الذي اعتبره انتحاراً، كون لبنان بلداً لا يُنتِج ويُعاني من مديونية مرتفعة نسبة إلى الناتج المحلي، ما يعني أن هذا المجلس سيكرّس المشكلة. وسيؤدي إلى إكمال دولرة الاقتصاد المحلي بشكل مُطلق.
ورفض خبراء اقتصاديون لبنانيون آخرون فكرة المجلس من دون حلّ سياسي وإصلاحات اقتصادية مع عجز الخزينة العامّة وتعثر الدولة عن دفع ديونها، معتبرين هذه الفكرة لا تتلاءم مع الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والنقدي والاجتماعي للبنان، وتُجرِّد المصرف المركزي من مهامه التقليدية. مع ما يتبع ذلك من نتائج كارثية على القطاع المصرفي المُحتَضِر أصلاً.
هذا، وأبدى خبير الأسواق المالية، دان قزي، قبل بضعة أيامٍ، في مقابلة له على موقع “يوتيوب”، رفضه التام لهذه الفكرة، لافتاً أن بلغاريا استطاعت عام 1998 النهوض من كبوتها بفضل الدعم الذي حظيت به، من خلال إطلاق مفاوضات إنضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وليس بسبب مجلس النقد كما يروّج مؤيدو النظرية الاقتصادية.