تدور الاتصالات واللقاءات والمشاورات الداخلية والخارجية في حلقة مفرغة، وسط صخب في الساحات والشوارع ومظاهر جديدة على المسرح اللبناني الذي استقبل على خشبته كل أشكال المسرحيات، بينما في المقلب الآخر يرتفع مستوى الأزمات على نحو مخيف، ولا سيما على صعيد التهريب. ويكشف مرجع سياسي في مجالسه عن إعادة تفعيل معابر بالجملة، منها ما يُعدّ منفذاً ما بين لبنان وسوريا منذ مراحل الحروب التي مرت على البلدين، من الثورة السورية الكبرى إلى حقبات لاحقة، وحيث يشهد هذا المعبر عمليات تهريب على المكشوف وأمام أعين المعنيين، ولكن، كما يقول، “على من تقرأ مزاميرك يا داود”، وخصوصاً بعدما تحولت بعض الطائرات التي تقلع من مطار بيروت إلى الخارج، إلى زرائب تنقل المواشي حارمةً اللبنانيين قوتهم اليومي، وإذا صح التعبير “لا لحم بعد اليوم إلا لمن يتقاضى راتبه بالعملة الخضراء”.
وتقول مصادر سياسية مطلعة عائدة من الخارج لـ”النهار”، إنّ الحلول للملف اللبناني ما زالت في العناية الفائقة في المطابخ الدولية، لكنّها ليست من الأولويات. وتبيّن من بعض الدوائر الضيقة في الخارجية الروسية، وحتى من الأميركيين، أنّ المبادرة الفرنسية لا تزال حية تُرزق وإنّما هي في “استراحة المحارب”، أو ترنحت وباتت في حاجة إلى صيانة شاملة بعد التطورات الأخيرة في لبنان والمنطقة، وخصوصاً مع اتجاه فرنسا والاتحاد الاوروبي الى فرض عقوبات على بعض المسؤولين اللبنانيين، وصولاً إلى أنّ المواقف الديبلوماسية التي كان يطلقها معظم المسؤولين الفرنسيين باتت تأنيبية بامتياز، على اعتبار أنّ الطبقة السياسية في لبنان خذلت أبرز أصدقائها في العالم، أي فرنسا. ولهذه الغاية فإنّ ما يُحكى عن مبادرة للفاتيكان أو عن حراك روسي وتحركات عربية قد تنتج حلاً، يصب في إطار مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، إنّما تأتي بالتكافل والتضامن معه ولا يمكن إعادة تحريكها وإنجاحها في حال لم تكن هناك أجواء دولية وإقليمية مؤاتية، لافتة إلى أنّ هذه الأجواء غير متوافرة حتى الآن، بانتظار بعض المحطات الأساسية ليبنى على الشيء مقتضاه في هذا الإطار.
وتشير المصادر إلى أنّ أبرز هذه المحطات هي المفاوضات الأميركية – الإيرانية حول الملف النووي، ولكنّها بالملموس لم تُحرز تقدّماً وتحتاج إلى وقت طويل وربما مستقطع لتتبلور الصورة حول إعادة الروح إلى العلاقة بين واشنطن وطهران. والمستجد في مرحلة الترقب هو ما ستؤول إليه القنوات المفتوحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، كما كُشف عن دور يقوم به العراق لتقريب المسافات بين الرياض وطهران، لكن وبشكل مؤكد انّ ما يجري اليوم هو خرق طفيف ويمكن أن تبلغ الأمور الإيجابيات إذا توقفت إيران عن دعمها للحوثيين ولـ”حزب الله” اللذين يستمران، وتحديداً الحوثيين، في قصف المنشآت المدنية والحيوية في السعودية، إلى ما يسوقه “حزب الله” من حملات تطاول الرياض. وبمعنى آخر، لم تظهر وفق المتابعين نيات صافية يمكن أن تؤدي إلى اتصالات بين الطرفين السعودي والإيراني، إنّما ما يثير القلق والمخاوف هو أن يُستثمر هذا الوقت الضائع بتصعيد ميداني في العراق وسوريا واليمن، ورفع مستوى الفوضى في لبنان إلى اهتزازات أمنية. وهذه الأمور تظهر تباعاً من خلال التصعيد الأخير بين سوريا وإيران وإسرائيل وتبادل الصواريخ العابرة بين هذه الدول، ومن ثم قرع طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إضافةً إلى كيفية إمرار الاستحقاق الدستوري في سوريا وترقب ردود الفعل الدولية على إعادة انتخاب بشار الأسد رئيساً للجمهورية وما إذا كانت روسيا، وهذا هو المرجح، تقبل بإعادة ترشيحه. ويبدو واضحا انّ المنطقة في حالة غليان أمني وسياسي، ومن الطبيعي ان هذه الارتدادات والانعكاسات سيكون لها وقعها على الساحة الداخلية نظراً إلى أرضية البلد الخصبة وهشاشة أوضاعه السياسية والأمنية، وربطاً بانهياره الاقتصادي المتمادي والذي يبلغ يوماً بعد يوم حالة يرثى لها على كل الصعد. ولهذه الغاية فإنّ الهواجس تكبر أمام هذا الكمّ من الاستحقاقات الدولية والإقليمية، والتي هي بمعظمها عوامل متفجرة.
وحيال هذه الأوضاع والظروف الحرجة على المستويين الإقليمي والدولي، فإنّ المشاورات الداخلية لتأليف الحكومة لم تعطِ بعد أية نتيجة، بل ان حالة الانقسام تتفاعل والشارع يهتزّ يوماً بعد يوم، والمسّ بالمؤسسات يشق طريقه على نحو مريع، من المصارف إلى القضاء، والبعض يتخوف من التطاول على المؤسسات الأمنية التي تبقى الملاذ الأول والأخير لحماية ما تبقى من السلم الأهلي والمؤسسات الآخذة بالتلاشي الواحدة تلو الأخرى، مع الإشارة إلى أنّ واشنطن تعتبر كما بعض المعنيين في الداخل اللبناني أنّ الجيش خط أحمر، وهذا أمر محسوم.