كتب خضر حمدان في المدن :
بعد شهرين من انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ونحو 4 أشهر من التماس أولى الخطوات العملية للانحدار الاقتصادي والنقدي، حذّرت بعض الجهات الدولية من وصول لبنان إلى مرحلة حاجته لمساعدات غذائية. وتلقَّفَت الأحزاب والطوائف تلك التحذيرات فور انتشارها، فخزَّنَت وهَرَّبَت من الخارج إلى الداخل، أطناناً من المواد الغذائية، فيما الدولة عجزت عن وضع خطة لمواجهة الأزمة. بل أنكَرَت احتمال وصول البلاد إلى ما هي عليه اليوم. فهل نحن أمام تدهور متواصل يؤدّي إلى مجاعة فعلية؟
أدلة متعددة
أرقام وإحصائيات رصدت تغييرات شبه يومية في أسعار السلع، ربطاً بتبدّل سعر صرف الدولار في السوق السوداء. فكان الارتباط بين أسعار السلع وأسعار الدولار حجة “منطقياً” في البداية، نظراً إلى دولرة الاقتصاد وواقع استيراد أكثر من 80 بالمئة من السلع. لكن فوضى التسعير وغياب الرقابة، فكَّ الارتباط وجعل المزاجية هي الأساس.
أرقام البنك الدولي والمنظمات الدولية وتلك المحلية، سواء أكانت تابعة لجهات أكاديمية كالجامعات، أو لجمعيات تُعنى بمراقبة الأسعار… أجمعَت على عمق الأزمة. أما اختلاف أرقام إحصاءاتها، فلا يعود لاختلافٍ حول تشخيص الأزمة، وإنما لتبدُّل المواد موضوع الإحصائيات. فالبنك الدولي على سبيل المثال، يأخذ في الاعتبار فاتورة الكهرباء وأسعار الايجارات وكلفة الخدمات الحكومية، وهي أكلاف باتت أرخص قياساً مع سعر صرف الدولار، مما يُخفِّض معدّل حصيلة ارتفاع الأسعار.
وترتفع الحصيلة في الدراسات الجامعية المحلية لأنها نتاج ملاحظة أكثر التصاقاً بالحاجات اليومية للمواطنين، ولما يميلون إلى شرائه. وتعطي بعض الجمعيات توصيفاً أكثر دقة للأسعار، كَونها تلاحظ تغيّرها من خلال الربط بين سعر الصندوق والسعر المدوَّن على الرفوف في المحال التجارية. وهذا السعر يختلف حتى داخل المحلّ الواحد، بفعل تبديل الأسعار بصورة لحظية أحياناً.
أما عيّنات السلع الأكثر شراءً، خاصة في شهر رمضان، فتشير إلى ارتفاع يقارب 600 بالمئة. فاللحوم والدجاج والخضار والأجبان والألبان، هي سلع استهلاك رئيسية تواجه اليوم امكانية الارتفاع الاضافي، إذ أن معدّل ارتفاعها بين نهاية العام الماضي ومنتصف نيسان الجاري، يتسارع أكثر مما كانت عليه السلع بين نهاية العام 2019 ومنتصف نيسان 2020. ويُضاف إلى ذلك، انعدام الثقة بالحلول التي يمكن أن تطرحها المنظومة الحاكمة.
وعلى سبيل المثال، واستناداً إلى آخر الأرقام الصادرة عن مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، فقد ارتفع سعر كيلو لحم البقر الطازج من نحو 20 ألف ليرة في كانون الثاني 2020 إلى نحو 55 ألف ليرة في نيسان 2021، فيما ارتفع سعر كيلو الفروج من نحو 5 آلاف ليرة إلى نحو 20 ألف ليرة.
أما سعر كيلو الموز البلدي، فارتفع من نحو 1000 ليرة، إلى نحو 6000 ليرة. وكيلو التفاح البلدي ارتفع من نحو 2000 ليرة إلى نحو 8000 ليرة. وكيلو البطاطا من نحو 1000 ليرة في إلى نحو 5000 ليرة، فيما كيلو الخيار ارتفع من نحو 2000 ليرة إلى نحو 4500 ليرة، علماً أنه كان قد وصل إلى نحو 6000 ليرة بين تشرين الثاني وكانون الأول 2020. وكيلو البندور ارتفع من نحو 2000 ليرة إلى نحو 6500 ليرة.
الأشهر المقبلة
الفوضى الشاملة في الأسعار “تجعل من المستحيل إجراء تقييم دقيق للأسعار”، وفق ما يؤكده لـ”المدن” رئيس جمعية المستهلك زهير برّو، الذي يُعيد سبب الاستحالة إلى التقلّب السريع لسعر صرف الدولار وربط كل الأسعار بالعملة الخضراء، بما في ذلك المنتجة محلياً.
ولم تأتِ عملية الدعم بأي أثر يُذكَر حيال خفض الأسعار، وإنما صبَّت في دعم التجار “الذين يرفضون اليوم وقف الآلية المعتمدة للدعم، بل يريدون إجراء بعض التعديلات عليها بفعل الاعتراضات التي تواجهها”. لكن في الحقيقية، “آلية الدعم الحالية خربت العملية الاقتصادية ونهبت أموال المودعين. واستمرار اعتمادها في ظل الحديث عن مساعدات قطرية ودولية، يعني تبديد المساعدات لصالح كبار التجار الذين يجتمع معهم رئيس الحكومة حسان دياب لوضع آلية لتوزيع المساعدات الآتية”. وعليه، فإن الأشهر المقبلة ستكون أقسى مما شهدناه، ما لم يتم إيقاف الدعم المباشر بكل أشكاله “بما في ذلك الخبز والكهرباء والمحروقات… والتوجّه لاعتماد البطاقات، وهو اقتراح قدّمته الجمعية لوزارة الاقتصاد منذ 16 شهراً، وأعدنا التذكير به منذ 4 أشهر، وكان الرد أن أحزاب الطوائف ستُفشِّل المشروع، لكن وجدنا أن بعض تلك الأحزاب اعتمدته بنجاح”.
ويضيف برّو أن “هناك نحو مليون و200 ألف عائلة بحاجة ماسة للمساعدات، ويمكن لدعم العائلات بدل دعم السلع، أن يوفّر الكثير من الأموال. لكن يجب على تغيير آلية الدعم أن يترافق مع ضخ المساعدات الدولية في السوق، وتحديداً المبالغ الدولارية، لأنها تخفّض الطلب على الدولار”. لكن يستبعد برّو اعتماد هذا الحل لأن المنظومة الحاكمة تدير “نظاماً مافياوياً عماده أحزاب الطوائف والسياسة والمصارف والتجار”. ويقوم هذا النظام على “إلهاء وإشغال مؤسسات الدولة بلعبة البحث عن الأسعار في المتاجر لخفضها ومراقبة بعض التجار وملاحقتهم، في حين يمكن حسم الجدل بتغيير آلية الدعم”.
ما تعيشه العائلات الفقيرة بفعل السياسات المتّبعة لمعالجة الأزمة، ليس إلاّ مجاعة مقنّعة. فخطورة المسألة تكمن في “تحوُّل الخضار إلى ثروة توَقَّفَ البعض عن شرائها كلياً أو جزئياً. فالفقراء يركّزون حالياً على النشويات كالأرز والبطاطا والمعكرونة”.