كتب منير يونس في موقع 180Post:
لم يعد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يعبأ كثيراً بصراخ فقراء لبنان بقدر اهتمامه بمصيره الشخصي المهدد بقضايا داخلية وخارجية، وحملات يجتهد في صد هجماتها المضنية بشبكات حماية سياسية واعلامية وقانونية وقضائية، داخلية وخارجية.
إن التهديد بتقنين، ثم وقف، دعم أسعار المواد والسلع الحياتية الأساسية في الغذاء والدواء والنقل والكهرباء يعيد رمي كرة الفقر الملتهبة في حضن السياسيين، ليتحصن رياض سلامة أكثر خلف الاحتياطي الالزامي من العملات الأجنبية البالغ 16 مليار دولار، والرافض المساس به، كما أعلن مراراً وتكراراً. على ماذا يعتمد سلامة لمنع تحوله الى “كبش محرقة”، كما قال في مقابلة مع تلفزيون فرنسي في آب/ أغسطس الماضي؟ إتضحت وتتضح جملة عوامل واقعة وأخرى متوقعة تقي “الرجل” نسبياً شر السقوط حتى تاريخه، على الأقل. فبين يديه وفي أكمامه جملة أوراق طرحها ويطرحها تباعاً في لعبة “بوكر” تحوّلت فجأة من مستورة بسحر ساحر الى مفضوحة بظرف قاهر، فما هي تلك الأوراق؟
أولاً، يتكل بصلابة الواثق على حماية أركان في المنظومة السياسية والطائفية لا تحمّله مسؤولية الإنهيار، كما ترفض هي ان تتحملها، لكأن الأمر الجلل قضاء وقدر: لقد صحا اللبنانيون على خسارة 100 مليار دولار من ودائعهم من حيث لا يدرون! تلك المنظومة تعرف في قرارات نفوس عتاتها أن سقوط سلامة، أو خروجه من “اللعبة”، يعني بقاءها وحيدة عارية أمام مسؤوليتها عن اسباب أزمات تراكمت في مدى ثلاثة عقود، قبل أن تنفجر إنهياراً ما زالت تداعياته مفتوحة على إحتمالات شتى. وعلى أجندة هؤلاء: نهتز ولا نقع.. وسلامة معنا. أما الفقراء فتباً لهم، لأنهم رعايا انتخابية قطيعية مصائرها في حظائر طائفية حتمية! ولا يتوانى بعض أقوى أركان المنظومة عن تأمين الحماية القضائية للحاكم، بحيث لا يقع اي من ملفاته في أيدي القضاة الحانقين عليه او المتربصين به، أو الباحثين عن الحقيقة لاحقاقها والعدل لنصب ميزانه، وهم عملة نادرة. فتركيبة القضاء طائفية في توزيع المناصب العليا والفاعلة، ما يجعل قضاة العدالة رهن ترشيحات وتعيينات يرضى عنها هذا الزعيم الطائفي او ذاك. وهنا تكمن استحالة المحاسبة وفقاً لأجندات وتوازنات لم تعد خافية على غافل أو عاقل.
استطاع سلامة طيلة 18 شهراً من عمر الأزمة (إن لم نقل الإنهيار) تحويل نفسه الى حاجة ماسة لشرائح واسعة، من فقراء معدمين الى تجار محتكرين، مروروا بساسة متلكئين متناحرين ناكرين للاستحقاقات ومؤجلين لوقوعها في احضانهم، وصولاً الى جشعين ومهربين أثروا من الإعسار كما لم يثروا ايام الرخاء!
ثانياً، يتخذ سلامة من ذريعة الحفاظ على الاحتياطي الالزامي من العملات الأجنبية متراساً نسبياً بوجه من يتهمه بالتفريط بودائع الناس. فبعد تبخر نحو 100 مليار دولار من ودائع المقيمين والمغتربين، تحول الاحتياطي الى حائط صد أخير يتمسك البعض به حقاً والبعض الآخر تقيةً. وما حارس ذاك الحائط إلا رياض سلامة نفسه. حراسة تشكل سبباً إضافياً من أسباب بقائه لاعباً في مسلسل وهم وعد اعادة تكوين الودائع يوماً ما. ثالثاً، يحرص سلامة على التظاهر بان القطاع المصرفي غير مفلس، وانه المجتهد في اعادة هيكلته متجاهلاً حقيقة لا تنفك تذكره بمرارتها المؤسسات المالية الدولية في كل تقاريرها المتخصصة.
فإصداره لعدد من التعاميم منذ اندلاع الأزمة، مع مواعيد واستحقاقات مختلفة مشفوعة بمرونة في التطبيق حيناً ومفخخة بتحايل المصرفيين عليها أحياناً، وضع الجميع في غرفة انتظار طويل. وما اللعب على الوقت الا للتوازي مع الاستحقاقات السياسية المعلقة على التشكيل الحكومي الجديد المطلوب منه انقاذ المصارف بأي شكل من الأشكال تحت طائلة تهديد ضياع مدخرات اكثر من 2.5 مليون لبناني. رابعاً، يستعين الحاكم أمام سائليه عن مسؤوليته بسردية طويلة تبدأ فصولها في منتصف التسعينيات الماضية، عندما اشتد الخلاف السياسي، تحت الوصاية السورية الخانقة، حول التجديد للرئيس (الراحل) الياس الهراوي. خلاف انعكس سلباً على الأسواق المالية بالهروب الجماعي من الليرة الى الدولار.
وكيف أن القصة الكارثية بدأ فصلها الأول عندما اضطر سلامة، بتشجيع من رفيق الحريري، لرفع الفوائد على سندات الخزينة الى 40 في المائة لجذب المكتتبين بالدين العام فوراً وبأي ثمن لسد عجز الموازنة، وإلا تنهار دولة الطائف الفتية. ويستسيغ سلامة التذكير بأنه سبق وحذر من تأخر الاصلاح منذ مؤتمر باريس 1 في 2001 وتباعاً حتى اليوم، ومن تفاقم عجز الموازنة بفعل الانفلاش الانفاقي الثابت في سياسات كل الحكومات المتعاقبة، ومن أزمة كهرباء لبنان المستمرة فصولاً فاسدة ومعتمة منذ 30 سنة، ويعرج على أزمة التمديد للرئيس إميل لحود في 2004 عام صدور القرار الأممي الصاعق المثير للصراعات 1559 القاضي بحل الميليشيات وخروج الجيش السوري من لبنان.
ولا ينسى كارثة اغتيال الرئيس الحريري في 2005، ثم حرب 2006 وأزمة 7 ايار/ مايو 2008، وتداعيات الحرب السورية في 2011، والفراغ الرئاسي في 2014، واقرار سلسلة الرتب والرواتب بكلفة مليارية باهظة في 2017، واحتجاز سعد الحريري في السعودية في العام نفسه، فضلاً عن كل الأزمات السياسية والأمنية وفراغات السلطات التي كانت تمتد شهوراً وسنوات أحياناً.
خامساً، في سعر صرف الليرة، شر البلية ما يضحك، إذ أن فقدان العملة الوطنية 10 في المائة من قيمتها مقابل الدولار قبيل اندلاع “حراك 17 تشرين” في 2019، وصولاً إلى فقدان 85 في المائة من قيمتها حالياً، جعل سلامة الملاذ شبه الوحيد أمام الطبقة السياسية الحامية له والغاضبة عليه على السواء.
جميعهم يطالبه بلجم انهيار العملة. وهو، مستغلاً ضعفهم في هذا المضمار، يعدهم (أو يوهمهم) في كل مرة بمنصة من هنا وهندسة من هناك كما لو انه الآمر الناهي على هذا الصعيد. بيد أنه يهزأ في سره، لأنه أول العارفين بشبه استحالة ذلك منذ ايلول/ سبتمبر 2019 عندما قال صراحةً انه سيؤمن الدولارات فقط لاستيراد السلع والمواد الحيوية ويترك الباقي للسوق الموازية.
سادساً، على صعيد الدعم، استطاع سلامة طيلة 18 شهراً من عمر الأزمة (إن لم نقل الإنهيار) تحويل نفسه الى حاجة ماسة لشرائح واسعة، من فقراء معدمين الى تجار محتكرين، مروروا بساسة متلكئين متناحرين ناكرين للاستحقاقات ومؤجلين لوقوعها في احضانهم، وصولاً الى جشعين ومهربين أثروا من الإعسار كما لم يثروا ايام الرخاء!
سابعاً، استطاع سلامة التحول أيضاً الى ملاذ للنافذين الراغبين بـ”النفاذ بريشهم” من تداعيات الأزمة. مع اسئلة عن غض طرفه عن مهربي اموالهم الى الخارج، وعن اصحاب المصارف الرافضين لرسملة مصارفهم من جيوبهم وارباحهم المليارية المتراكمة. كما اسئلة عن مرونة بالغة في تمويل عجز الموازنة بطبع النقد بلا قيد أو شرط متقمصاً وحده دور حكومة ظل كاملة الوظائف الادارية والمالية والانفاقية والاجتماعية. ثامناً، لا يفوت سلامة تمسكه الشديد بنصوص في قانون النقد والتسلف تمنحه استقلالية واسعة فريدة من نوعها تحول دون توجيه الكثير من الاسئلة اليه، ومانعة لأي محاسبة له بالطرق السياسية والقانونية الكلاسيكية. ويستغل تلك الاستقلالية “أفضل” استغلال في مواجهة الكثير من المسائل العالقة والشائكة مثل التدقيق الجنائي الذي واجهه أولاً بسلاح السرية المصرفية، وهو اليوم يقاومه ويقاوم غيره من الاستحقاقات بأدوات من نفس قانون النقد والتسليف العتيد. تاسعاً، حاول الفرنسيون استبداله من ضمن رزمة مبادرة قصر الصنوبر، ورشحوا بديلاً عنه، لكن الخلافات السياسية الكيدية اجهضت المبادرة الفرنسية، و”نفّست” زخم راعيها ايمانويل ماكرون، وحالت دون استبدال رياض سلامة اللاعب بمهارة على وتر النزاع حول خلافته بين المتناحرين من اركان المنظومة. وقبل ماكرون، كان رئيس الحكومة حسان دياب فشل في اقالته، ثم تجدد رهان حقيقة بقائه حتى آخر ولايته في 2023 عندما كُلّف سعد الحريري بتشكيل حكومة تقوم (اذا قامت!) على تسوية تضم سلامة بين بنودها لا محالة. عاشراً، تجددت الحماية الاميركية الجلية لحاكم مصرف لبنان في مأدبة الغداء التي ضمته في منزله الى مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية دايفيد هيل الأسبوع الماضي. تلك الحماية ليست لسواد عيون سلامة بقدر ما هي لضمان استمرار وصول الأميركيين الى المعلومات التي بحوزة الحاكم، ويمكن ان يستخدمها “العم سام” ضد من يشاء ووقت يشاء، لا سيما ضد من تعتبرهم أميركا مناوئين لسياساتها ومهددين لأعوانها. وفي سياق المعلومات “الثمينة” أيضاً، يسري اعتقاد ان بحوزة سلامة منها ما يحميه ويزيد. فأي محاولة لتوريطه وحده وتركه نهباً للمحاسبة الانتقائية قد تدفعه الى التلويح باسقاط رؤوس مع رأسه في توازن رعب يلجم نزعات الانتقام غير المدروسة. على نحو ما سبق وبفعل 10 دفاعات “ثقيلة”، يستطيع رياض سلامة، بسهولة وبحماية المنظومة إياها، الامعان في متابعة مشاهدة مسلسل ذر الرماد في العيون والأنوف والثغور. مسلسل سيطول عرضه حتى رمضان 2023 على ما يبدو.