كتب غسان ريفي في “سفير الشمال”: لم يكن ينقص لبنان الغارق في كم هائل من الأزمات والمآسي، إلا ضرب وتشويه صورة أحد آخر حصونه وهو القضاء الذي تعرض يوم أمس الى ما يشبه زلزالا أظهر كل عيوبه، وفي مقدمها الاستقواء السياسي على قرارات مجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز.
لا يختلف إثنان على أن القضاء كالعسكر، تسري عليه قاعدة “نفذ ثم إعترض” فالجندي عندما يرفض تنفيذ أمر قائده يعاقب بالخيانة، وكذلك عندما يتسبب قاض مهما علا شأنه أو كانت دوافعه وحججه في إضعاف كيان العدالة بالتمرد على قرارات رؤسائه من المفترض أن يُتخذ بحقه الاجراءات المسلكية والعقوبات الرادعة، ولذلك هناك مجلس للقضاء الأعلى، وهيئة للتفتيش القضاء من أجل مراقبة عمل القضاة حرصا على تحقيق العدالة المنشودة.
عندما تُصدر أي محكمة قرارها بحق أي شخص بالحبس، فإن هذا القرار يصبح نافذا فورا، ومن ثم يتم البحث بامكانية الاستئناف أو الطعن أو اللجوء الى محكمة التمييز لتجديد المحاكمة وإعادة النظر في حيثيات القرار.
هذا يعني أن جميع المواطنين مهما علا شأنهم يتعاطون مع القضاء على قاعدة “نفذ ثم إعترض”، لكن أن تُقدم القاضية غادة عون على فتح قضاء “قطاع خاص”، أو قضاء على “حسابها”، وتتمرد على قرار مجلس القضاء الأعلى بكف يدها وسحب الملفات القضائية منها ومنعها من إعطاء إشارات أمنية، فضلا عن إمتناعها عن المثول للتحقيق معها أمام أعلى سلطة قضائية على خلفية أدائها والشكاوى المتعددة المقدمة ضدّها والمتعلقة بمجمل نطاق عملها القضائي، فهذا يشكل سابقة خطيرة جدا في تاريخ القضاء اللبناني من شأنها أن تهدم هيكل العدالة على رؤوس الجميع.
لم تكتف القاضية عون بذلك، بل مارست عملها بشكل طبيعي ضاربة كل قرارات مجلس القضاء الأعلى بعرض الحائط، وإقتحمت مع مرافقيها ومع عدد من عناصر “متحدون” مكاتب إحدى شركات الصيرفة، لتنتقل بعد ذلك الى ممارسة “شعبوية” لا تليق بالقضاء من إلقاء الخطب الحماسية من على الشرفات، ورفع يديها لتحية الجماهير المتضامنة معها، وتأكيدها أمامهم بأنها مستمرة في كشف الفاسدين ومحاربتهم وكأنها قاضية “مقطوعة من شجرة” ليس لها مرجعية ونظام وقانون لتحديد عملها وعمل كل قاض.
ما قامت به القاضية عون لم يكن ليحصل لولا أنها تشعر بفائض قوة من الحماية التي يوفرها لها “الرئيس القوي” ميشال عون الذي يعطل التشكيلات القضائية منذ أكثر من عام كرمى لعيون ما بات يُعرف بـ”ذراعه القضائي” الذي لديه “ضوء أخضر دائم من فوق” لتصفية الحسابات مع الخصوم وإستهداف كل من يحاول أن ينغص على “الجنرال” ولايته أو يقطع الطريق على طموحات جبران باسيل الرئاسية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
لم يعد صدفة هذا التدمير الممنهج لكل مؤسسات الدولة، وهذا الدفع القوى والمستمر للبنانيين بإتجاه جهنم التي يبدو أن القرار صدر بسوق القضاء برمته إليها، فكانت الضربة القاضية له على يد القاضية عون التي قد تكون دقّت المسمار الأخير في نعش القضاء، إذا لم يكن هناك عملية إنقاذ شاملة وفورية تبدأ من حراك وزيرة العدل ماري كلود نجم التي تعقد إجتماعا مع رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس هيئة التفتيش القضائي والنائب العام التمييزي للبحث في معالجة هذه الفضيحة التي إنقسم حولها سياسيون بين من أدانوا القاضية عون ووصفوا ما حصل بعبارات قاسية من “جنون الجمهورية والعصفورية ونشر الغسيل الوسخ” وبين من تضامنوا معها على حساب مصلحة مؤسسة القضاء التي في حال تم إضعافها في هذه الظروف فإن لبنان سيتجه الى شريعة غاب يأكل فيها القوي الضعيف..
المصدر: سفير الشمال