كتب الدكتور لويس حبيقة في “اللواء”:
هنالك خوف عالمي من عودة التضخم القوي هذه السنة بسبب ضخ المال والنقد في جميع الاقتصادات لمعالجة المشاكل الصحية والاجتماعية. يحصل هذا الانفاق في وقت لا تنمو خلاله الاقتصادات، مما يشكل سببا مباشرا لعودة التضخم. يعتقد الاقتصاديون أن التضخم يبقى أسوأ الأمراض الاقتصادية لأنه يمس بكل شيء وخاصة بأوضاع الفقراء وأصحاب الأجور الثابتة. من أهم الضخ المالي الحاصل هو برنامج الرئيس بايدن الذي يصل الى اكثر من 4 آلاف مليار دولار، منه على الصحة لمواجهة الكورونا والباقي لتحديث وتجهيز البنية التحتية. أوروبا كمجموعة وكذلك كل دولة تنفق الكثير لمواجهة عدو الجميع أي الكوفيد 19 الذي ينتشر في المجتمعات دون موانع أو عوائق. في غياب النمو، لا بد من القلق تجاه التضخم الذي يأكل مال الفقير كما ادخارات جميع المواطنين ويضيف الى المخاطر الاقتصادية العامة.
هنالك سببان آخران مهمان يساهمان في زيادة القلق تجاه حصول التضخم القوي الذي غاب لسنوات بفضل السياسات المالية والنقدية المحافظة. السبب الأول هو التغيير الديموغرافي الهيكلي والثاني هو السياسات الاقتصادية العامة. في الديموغرافيا هنالك تغيير واضح يحصل عبر زيادة نسبة المسنين بفضل الغذاء والطب والرياضة وغيرها وبالتالي نسبة القوة العاملة من المجموع تنخفض. هنالك اذا نوع من انخفاض نسبي في عرض العمالة، مما يساهم في رفع قيمة الأجور وبالتالي ارتفاع التكلفة وثم عموم الأسعار. أما من ناحية السياسات، هنالك دلالات واضحة على أن السياسيين يغضون النظر عن التضخم شرط أن تبقى الفوائد القصيرة الأجل منخفضة كي تبقى تكلفة الديون العامة والخاصة متدنية. لا مفر من الاستدانة لمواجهة تكلفة المعيشة المتزايدة وبالتالي لمنع الانفجار الاجتماعي. السياسيون يعالجون النتيجة وليس السبب.
التوقعات التضخمية الشعبية مرتفعة نتيجة ما يحصل على صعيد الإنفاق العام وبسبب ارتفاع الكتلة النقدية كثيرا. تؤثر التوقعات كثيرا على ما يحصل، اذ تحدد التصرفات وبالتالي النتيجة. تشير الاحصائيات الى أن مؤشرات الأسعار ترتفع وان عدوى التضخم أصبحت واضحة أكثر من الماضي.
ما يحصل اليوم في لبنان يذكرنا بسقوط الليرة في منتصف الثمانينات علما أن الأوضاع اليوم أصعب وأسوأ لأن العالم أجمع ليس مرتاحا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وخاصة صحيا. في الثمانينيات عانينا من واقع الحكومتين، اما اليوم وشكرا لنا حكومة واحدة مستقيلة تصرف الأعمال. أوضاعنا في الماضي كما اليوم سيئة وبالتالي لا نحسد عليها.
تنهار الليرة لأسباب متعددة منها سياسي وشعبي ومنها مصرفي ومالي وأهمها صحي لأنه فرض اقفال البلد كليا وجزئيا لأشهر عدة. تنهار الليرة أيضا نتيجة ضعف الثقة الناتج عن انفجار 4 آب والذي لا نعرف تفاصيله. ماذا حصل، من المسؤول، هل ستتم المعاقبة؟ من سيعوض على العائلات والمنازل والمحلات التي تضررت بشريا وماديا وحياتيا ونفسيا؟ حتى اليوم الوقائع لا تشجع في غياب الثقة بين الناس والحكام. حجم الكتلة النقدية يرتفع بسرعة نتيجة انهيار الليرة كما يساهم في نفس الوقت في انهيارها أكثر.
لا يمكن لأي نقد ان يبقى قويا في وجه أمور خطرة متزامنة كالتي تحصل عندنا منذ أواخر 2019. تضاف اليها اقراض مصرف لبنان المتزايد للدولة من أموال المودعين دون قيود أو حساب في غياب القدرة على التسديد. لذا دخلنا في حلقة مفرغة (مواطن – مصرف – قطاع عام) مدمرة تضرب الثقة في القطاع العام ومسؤوليه كما في النظام المصرفي والمسؤولين عنه. هنالك رغبة عند المواطن لسحب أمواله لتخزينها في المنزل أو ارسالها الى الخارج بطريقة أو أخرى لكنه عمليا غير قادر على ذلك. الفارق الكبير بيننا وبين الدول الأخرى خاصة الغربية هو أن للدولة دور كبير في دعم المواطن والشركة والقطاع الخاص عبر اعادة الضرائب المدفوعة سابقا أو تخفيفها أو الغائها أو عبر الدعم المالي المباشر كي يستمر الصمود. اللبناني عمليا وواقعيا متروك لنفسه دون أي حماية في طقس هائج أو بحر خطر ولا من يهتم به رسميا وعمليا.
انهارت الليرة نتيجة سوء الممارسة على مدى سنوات وبسبب تزامن المشاكل الكبيرة. خلقت جميعها تضخما قويا في بلد يستورد معظم حاجاته. يحصل هذا في غياب أي رقابة رسمية فعلية تخيف الفاسدين وتعاقب بشدة المخالفين. لا تكفي كتابة محاضر رقابية، بل يجب اتمام المعاقبة القانونية والقضائية الجدية والصارمة. ترشيد الدعم ضمن رؤية معلنة واضحة ضروري بالاضافة الى اصدار البطاقات التموينية لمن يستحقها.
كي يقف الانهيار، هنالك أمور حتمية يجب القيام بها:
أولا: تشكيل حكومة من اختصاصيين مستقلين. اذا كانوا فعلا مستقلين، فلن يحصل أي حزب أو تيار على الثلث أو الأكثرية. فقط الضمير والمعرفة يسيطران على القرار وهذا متوافر. لماذا لا نبدأ في لبنان بتشكيل حكومات نصفها من النساء كي نبرهن للداخل والخارج أننا كمجتمع جديين بمحاربة الفساد؟
ثانيا: مفاوضة صندوق النقد الدولي بسرعة خاصة وأن المسؤول عن المنطقة هو وزير مال لبناني سابق ملم جدا بالأوضاع وبالتالي لن تأخذ المفاوضات الوقت الطويل. المهم أن نلتزم بتنفيذ الاصلاحات ولا نضيع الوقت. لا بد من اتمام تحقيق جنائي يبدأ من مصرف لبنان ويتبع في الوزارات والمجالس والمؤسسات الأخرى جميعها.
ثالثا: مع القيام بذلك وبدء أجواء التفاؤل، يبدأ اللبنانيون ببيع جزء من دولارات المنازل للاستفادة قبل انخفاض سعر صرف الدولار. كما يبدأ اللبنانيون الموجودون خارج لبنان بارسال كميات أكبر من الدولارات الى بلدهم لتمويل بعض الاستثمارات المتأخرة أو اكمال بعضها الآخر أو القيام بالجديد بشكل متدرج ومتواضع بانتظار عودة الثقة أكثر.
رابعا: الموضوع الأساسي في لبنان هو الثقة ولا بد من اعادتها الى المواطن وهذا يتطلب تغييرات في قيادات المؤسسات العامة الأساسية ولا مفر من ذلك. كلما أسرعنا في التغيير، كلما خففنا الخسائر. المطلوب من قيادات الانتفاضة التي بدأت في 17/10/2019 توحيد جهودها لتغيير المعادلات في الانتخابات النيابية المقبلة. للوقت ثمن كبير، فلا نضيعه في الأنانيات وسوء الرؤية.
هنالك خطورة كبيرة في لبنان تكمن في أن عدم ثقة المواطن بالقطاع العام تنعكس أيضا على القطاع الخاص. عندما يفقد المواطن ثقته بالقطاعات الاجتماعية والصحية يصبح الوضع معقدا أكثر ويرتبط بالتالي بالأخلاق والممارسة وحتى الكفاءة. هذا الجو من عدم الثقة هو دافع كبير نحو هجرة الشباب والانكفاء الداخلي وعدم القيام بأي أعمال استثمار وبالتالي يتضرر الاقتصاد على المدى الطويل.