كتب كميل بو روفايل في “النهار”:
يعجز لبنان عن الاستمرار في انتهاج سياسة الدعم التي سعى إلى توسعتها في أواخر عام 2019، حين لاقت الخطط “الإنقاذية”، المتزامنة مع بدء تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، شعبوية الشارع الغاضب من انهيار سعر العملة. وقُدّرَت كلفة الدعم بـ500 مليون دولار شهرياً أي 6 مليارات دولار سنوياً، بحسب وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني، الذي أعلن في تصريح آخر أنّ المال المخصّص لتمويل الموادّ الأساسية سينفد بحلول نهاية أيّار.
وورد في تقرير نشره الوزير راوول نعمة والدكتورة ليلى داغر في جريدة “النهار”، أنّ “مخطّط الدعم الحالي إذا بقي من دون تعديل فسوف يستنفد احتياطات المركزي بنحو 7 مليارات دولار عام 2021”.
يبدو أنّ هذا الواقع لن يبقى على حاله، لكن الأنظار تتجه إلى الحكومة التي ستبادر إلى #رفع الدعم أو ترشيده. لأنّ الاستمرار بطبع الليرة اللبنانية الضرورية لدفع رواتب القطاع العام والتزامات الدّولة، يترتب عليه احتفاظ المركزي بالـ15 في المئة من الاحتياطي بالعملة الخضراء، وفق دراسة “الدولية للمعلومات”. لذلك لا يمكن الاستمرار بالدعم على ما هو عليه الآن، لأنه يقود الدولة إلى الإفلاس بعد عجزها عن الطباعة.
المصدر: الموقع الإلكتروني لمصرف لبنان.
1)ما هي مشكلة الدعم؟
علّة الدعم أنّه استنفد دولارات المركزي عبر دعم موادّ هُرّب قسم منها، واستفادت منه شريحة لا تحتاج إليه. الأمر الذي ضغط على احتياطي مصرف لبنان من الدولارات الأميركية، طوال مدّة تجاوزت السنة، من دون وضع أيّ برنامج بديل لخفض سعر صرف الدولار وتأمين الأمن الغذائي، وإيجاد البدائل. لتكون السلطة بذلك قد قيّدت الحلول، واتجهت بالاقتصاد نحو جهنّم فعليّة، بعد العجز عن الاستمرار في الدعم، وسط استمرار تدهور الليرة في السوق السوداء، الأمر الذي يدفع بالأسعار إلى مزيدٍ من الارتفاع.
تدعم الدولة اليوم، من أموال المودعين في مصرف لبنان، القمح، والأدوية والوقود، على أساس سعر صرف 1515 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وضمن نسبة تتراوح بين 85 في المئة إلى 95 في المئة. وتؤمّن 100 في المئة من دولارات سلّة مختلفة من السلع على أساس سعر صرف 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد.
ونذكر من الموادّ المدعومة أيضاً بعض أنواع السمك واللحوم المجمّدة، والأجبان والزبدة والزيت، والشاي، والخميرة، والفاصولياء، والأرزّ، وغيرها.
وتكمن المشكلة في أنّ الضغط على احتياطي الدولار، سيترتب عنه عجز في طبع الليرة، ما يؤدي إلى توقّف عن سداد ديون الدولة مثل رواتب القطاع العام، الأمر الذي يقودها إلى إفلاس حتمي إن وصلت إلى هذا الدرك.
2)ما هو الفرق بين #ترشيد الدعم ورفع الدعم؟
أشارت أرقام آذار إلى أنّ قدرة المركزي الباقية على الدعم لا تتخطى الـ1.3 مليار دولار. وبعد إدخال سلفة مؤسسة كهرباء لبنان البالغة 200 مليون دولار، لن يبقى سوى 1.1 مليار دولار. وقد أعلن وزني أنّ المطلوب ترشيد الدعم على المحروقات من 90 في المئة إلى 85 في المئة، وكان من المرتقب أن يحصل ذلك بداية الشهر الجاري. وفيما لفتت بعض الجهات إلى أنّ الأمر قد يحصل بعد الأعياد، إلّا أنّ الواقع لا يعكس أيّ مبادرة حتى اللحظة. لأنّ الأمر يحتاج إلى قرار حكومي، ولم يحسم أمر إعادة تفعيل حكومة دياب بعد طلبه مناقشة الأعمال، التي يتيح الدستور لحكومة تصريف الأعمال القيام بها.
وبلغت تقديرات زيادة سعر البنزين 5000 ليرة مع كلّ 5 في المئة حسم من الدعم. وقد أكّد عضو نقابة أصحاب محطّات المحروقات جورج البراكس لـ”النهار” في قت سابق، أنّ “ترشيد الدعم إن حصل (بعد الأعياد) فمن شأنه أن يرفع سعر صفيحة البنزين إلى أكثر من 50000 ليرة لبنانية”. أمّا إن رُفع الدعم كلياً عن المحروقات، فإنّ سعرها سيكون مرتبطاً بسعر البرميل عالمياً وبسعر الدولار محلياً، لكن التقديرات تشير إلى أنّ سعر صفيحة البنزين يصل إلى 175 ألف ليرة لبنانية.
وتدرس الجهات المعنيّة خفض السلّة الغذائية المدعومة إلى 30 سلعة ضمن إطار ترشيد الدعم، لتتراجع كلفة دعمها الشهرية من 80 مليون دولار إلى 40 مليون دولار، لكن الأمر لا يزال مؤجلاً، ويمكن أن يحصل بعد شهر رمضان المبارك.
وتطرح هيئات أخرى حلولاً مختلفة، قد تحلّ محلّ الرفع الكلي للدعم ومنها البطاقة التموينية، التي يقدَّر أن تكون كلفتها الشهرية 150 مليار ليرة، أمّا طرح ورقة وزير الاقتصاد فيقضي بإعطاء الدعم بالدولار. كذلك يهدف القرض المقدّم من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار، إلى دعم 786 ألف مواطن من الأكثر فقراً.
3) ما هي الفوائد التي سيحملها رفع الدعم؟
رفع الدعم بأسرع وقت، سيكون الحلّ للاستمرار بطبع الليرة حتى تتمكن الدولة من دفع رواتب القطاع العامّ، وعدم وقوعها في الإفلاس. لكنه سيحافظ أيضاً على ما بقي من أموال المودعين بالدولار الأميركي. وكذلك سيوقف استفادة الطبقة الميسورة التي لا تحتاج إلى دعم، من الأموال التي يجب أن تحصل عليها الشريحة الفقيرة (التي باتت تمثل أكثر من 55 في المئة من الشعب اللبناني).
ويرى بعض أنصار المدرسة الكلاسيكية، أنّ رفع الدعم وتحرير سعر صرف الدولار، في سوق يتبع أقصى معايير الشفافية، سيؤدي بعد مرحلة إلى إعادة التوازن وفق القواعد التي تحكمه ومنها العرض والطلب، وسيتكيف العملاء الاقتصاديون مع الواقع الجديد، وسيحددون أولوياتهم وتصوراتهم للمستقبل، ضمن إطاره، مع ما بقي من شركات ومصانع تكون الأكثر إنتاجاً وتنافساً بعد قدرتها على البقاء وسط هذه الظروف السامّة لعالم الأعمال. ويشدّدون على أنّ هذا الأمر إذا تزامن مع استقرار سياسي وأمني، ومع كفّ يد الدولة التي لطالما اتبعت سياسات عكسية في لبنان، وقضت على الإنتاجية، وضخّمت القطاع العام، وكذلك مع اتباع خطّ الحياد، كلّ ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض في سعر الصرف، وعودة بعض الاستثمارات إلى لبنان، وتالياً عودة الحركة الاقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، لن تهدر الدولة دولارات المودعين على بضائع من شأنها أن تهرّب عبر المعابر. ويقول آخرون إنّ سياسة الدعم الحالية يستفيد منها أشخاص غير لبنانيين، فيما يحصلون في الوقت عينه على تقدِمات جهات مانحة دولية.
4) كيف سيؤثر رفع الدعم سلباً على سكان لبنان؟
سيؤدي رفع الدعم إلى مزيد من التخضّم، الذي سيتزايد بأكثر من المعدّلات التي شهدناها على مدى السنوات الماضية، لأنّ آثار سعر صرف دولار السوق السوداء ستظهر بشكل أوسع في السلع المستوردة. وكان تقرير (الفاو) ومنظمة الأغذية العالمية، قد أشار إلى أنّ لبنان يتجه إلى التخلّص من سعر الصرف الرسمي (الذي يبلغ متوسطه 1507.5 ليرات لبنانية للدولار الواحد)، وأنّ الأمن الغذائي في لبنان معرّض للخطر. وحذّر من أنّ أيّ رفع للدعم من دون بدائل سيؤدي إلى اضطرابات. لأنّ تدهور القدرة الشرائية للرواتب بالليرة اللبنانية، سيصطدم بأسعار نارية لا تستطيع العائلات اللبنانية، التي تُذلّ حالياً أمام الرفوف المدعومة، تحمّلها.
المصدر: إدارة الإحصاء المركزي.
واللافت في هذا الإطار العبارة التي وردت في ورقة وزير الاقتصاد، والتي نشرت عبر “النهار”: “تهدف التحويلات الشهرية (للبرنامج المقترح) إلى تغطية (…) لضمان البقاء على قيد الحياة لنحو 20 في المئة من السكان”. من هنا خطورة المرحلة المقبلة، التي تتطلب الإسراع بوضع الخطط الإنقاذية منعاً لجوع الشعب، وخاصة أن 20 في المئة من السكان قد يتعرّضون لجوع مميت. لكنّ الأخطر هو مماطلة السلطة، التي يقول متابعون بأنّها ترى بالبطاقة التمويلية أداة لإعادة الزبائنية وتضييق الخناق على القاعدة الشعبية التي تنوي التغيير.
5) ماذا سيحصل بعد ترشيد الدعم أو رفعه كلياً؟
سيزداد الطلب على الدولار الأميركي بغية الاستمرار بالاستيراد، الأمر الذي سيدفع بالمستورد إلى اللجوء إلى السوق السوداء والضغط على معروض الدولار القليل أصلاً، الذي من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من تدهور سعر صرف الليرة، ومن ثم إلى مزيد من #التضخم، وإلى استيراد أقل. وتزداد حدّة هذه المشهدية كلما ازدادت نسبة ترشيد الدعم وصولاً إلى رفعه كلياً. ونفقد، على إثر ذلك، سلعاً عديدة من السوق، وحتى الذي يمتلك أموالاً لشرائها لن يجدها.
نصل إلى الملجأ الأخير، الذي فرضته السلطة عبر ممارساتها طوال السنوات السابقة وصولاً إلى هذه المرحلة، وهو التفاوض مع صندوق النقد الدولي. ومن المرتقب كما بات معروفاً، أن تكون النقاط الأساسية المطروحة؛ تقليص حجم القطاع العام الذي تضخّم بفضل الزبائنية، وأكبر مثال على ذلك التوظيفات التي حصلت قبل انتخابات عام 2018، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب. وكذلك بيع أصول الدولة، التي يرجّح أن تكون الطبقة القادرة على شرائها هي نفسها المتهمة بالفساد، والزبائنية، وتهريب أموالها إلى الخارج، وتصحّ عندها مقولة الـ”تيتانيك”، التي غرقت بالفقراء، ونجا الأغنياء على قوارب خاصّة.
في المحصّلة، نرى أنّ ترشيد الدعم قد بدأ مع المماطلة بفتح اعتمادات البضائع التي تكون قد حصلت على إذن، وتنتظر في البواخر إلى حين تفريغ الحمولة. الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض نسبة الاستيراد، وإذاً انخفاض نسبة الموادّ المدعومة. لكن ما مدى قدرة المواطن ولبنان على تحمّل المرحلة المقبلة؟ وقد رأينا مشاهد الريغارات المسروقة، وسرقة أبواب المدافن.