كتبت سلوى بعلبكي في “النهار”:
تعيش الطبقة السياسية في لبنان “ترف” الانكار بأن الوضع الاقتصادي قد تجاوز الحضيض وصار قاب قوسين من الارتطام الكبير.
اتهامات متبادلة يمنة ويسرة، وأخبار وادعاءات وتجييش في الإعلام يصل صداها الى مختلف اصقاع المعمورة ويتسبب بأسوأ سمعة بإفقاد لبنان الثقة الدولية ومؤسساته السمعة الحسنة التي جاهدت لبنائها عقوداً طويلة.
موضوع الكلام ما كُشف أخيرا عن بدء توقف بعض المصارف المراسلة عن التعامل مع المصارف اللبنانية ومصرف لبنان، بما ينعكس سلباً على ما تبقّى من نشاط مالي للمصارف. وهذه المقاطعة تأتي نتيجة حتمية منتظَرة لما أدلى به الكثير من المسؤولين الرسميين في لبنان من اتهامات اعلامية لحاكم مصرف لبنان وللمصرف المركزي والمصارف، على نحو شوَّه سمعة القطاع المالي ووضعه تحت مقصلة فقدان الثقة الدولية به وإضعافه بما يزيد من معاناته وضيق هامش حركته وحركة التحاويل وتمويل المستوردات الضرورية من الاغذية والدواء والنفط. كل ذلك يضاف الى ما يعانيه القطاع المصرفي داخليا من فقدان السيولة وتصفير الارباح وغياب ثقة المودعين به، مما يهدد مصرف لبنان والقطاع المصرفي عموما بالعزل عن النظام المالي العالمي وخسارته كليا الدور الذي تميز به تاريخيا.
لم تكن المذكرة التي وجَّهها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى المدعي العام التمييزي في شأن علاقة المصارف المراسلة مع المصرف المركزي اللبناني ومع المصارف التجارية، إلا جرس انذار للمخاطر المحدقة بلبنان من جراء تشويه سمعة مصرف لبنان والقطاع المصرفي عموما، بما سيجعل لبنان في وضع “تصعب معه التحويلات الخارجية وشراء السلع الأساسية ودعمها، كما الاستحصال على عملات نقدية أجنبية لتسيير المرافق الاقتصادية المُختلفة”.
ويعزو الحاكم اسباب قرار المصارف المراسلة الى “عدم تسديد سندات الدَّين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، والحملات السياسية ضد مصرف لبنان، اضافة الى الضجة القضائية واستغلالها داخل لبنان وخارجه بما زرع شكوكا لدى مراسلينا والمصارف الكبرى التي نتعامل معها”.
ويخلص سلامة الى أن مصرف لبنان في وضع صعب: “لدينا مصرف واحد هو “جي بي مورغان” يقبل بتعزيز الاعتمادات المستندية التي نصدرها لاستيراد المحروقات وغيرها لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة وبعض إدارات القطاع العام، وذلك مقابل مبالغ تودع لديه بقيمة لا تقل عن مجموع مبالغ الاعتمادات المستندية، وهو يرفض حتى تاريخه تعزيز اعتماد مستندي لمصلحة شركة “كومبي ليفت” الألمانية لرفع مستوعبات من مرفأ بيروت تحتوي على مواد كيميائية خطرة”.
لا يستغرب النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور محمد بعاصيري الوضع القائم حاليا مع المصارف المراسلة والناتج من سلسلة من الاحداث لعل أولها “الوضع الاقتصادي المتهاوي وكذلك الوضع الحكومي المتعثر وانعدام الثقة في مستقبل مقبول. كما ان القرارات التي اتخذتها حكومة الرئيس حسان دياب من اعلان افلاس لبنان بعد قرار عدم سداد سندات “اليوروبوندز” وبرنامج الدعم الفاشل والاستمرار في سياسة استنزاف احتياط العملات لدى مصرف لبنان، من الاسباب الرئيسية التي جعلت من المصارف المراسلة حذرة مع التعامل مع #القطاع المصرفي اللبناني”.
لكن بعاصيري لا يستثني القطاع المصرفي من الاسباب التي جعلت بعض المصارف المراسلة تقرر عدم التعامل معها، “فالوضع المصرفي منذ 17 تشرين الاول 2019 وقيام العديد من المصارف بتحويل ودائع بشكل استنسابي، وخصوصا تلك العائدة لبعض اصحاب المصارف واداراتها وكذلك تلك العائدة الى المعرّضين سياسيا PEPs، إضافة الى الوضع المالي للمصارف من حيث احتمال عدم استمرارية البعض والنقص في الملاءة والسيولة والمستوى الاداري المتدني لبعضها”.
الى ذلك، يضيف بعاصيري سبباً لا يقل أهمية عن الاسباب الاخرى، ويتعلق باستمرار الحملات على مصرف لبنان والاستغلال السياسي لها وخلق الانطباعات السلبية واظهاره في مستوى فقدان الصدقية. وفي المقابل، لم يبادر مصرف لبنان وجمعية المصارف الى التواصل مع المصارف المراسلة وابداء وجهة النظر حيال ما يجري على الصعيد المصرفي، وكذلك فقدان التواصل من قِبل المصرف المركزي وجمعية المصارف مع الداخل والخارج، وخصوصا المودعين، واطلاعهم على سلامة او عدم سلامة ودائعهم بشكل شفاف.
كيف يمكن أن يعاد وصل ما انقطع مع هذه المصارف؟ من البديهيات، وفق ما يقول بعاصيري “ان عودة الثقة تحتاج الى حكومة قادرة على اتخاذ الاجراءات الاصلاحية اللازمة لاستعادة الثقة. وعلى المستوى عينه، وصْل من انقطع مع المحيط العربي والمجتمع الدولي، بالتوازي مع البدء بالتدقيق الجنائي بشكل شامل وكامل وبعيدا من اي تسييس مضمَر.
في المقابل، يجب على مصرف لبنان وجمعية المصارف اتخاذ المبادرة pro-active في التواصل الحثيث مع المصارف المراسلة والمؤسسات المقررة كالبنك الفيديرالي الاحتياطي Federal Reserbe Bank على سبيل الذكر وليس الحصر”، وفق ما يقول بعاصيري، الذي ينصح المصارف “بالتواصل مع مودعيهم بشكل شفاف وصادق وبعيدا من معاملتهم بشكل يمتهن الكرامة في العديد من المناسبات”.
وبعيدا من القطاع المصرفي، يقترح بعاصيري “وقف برنامج الدعم الذي كلَّف أكثر من 8 مليارات دولار، وافادة المودعين والناس عبر تخصيص نحو 200 دولار كاش للعائلات الفقيرة من دون سواها”.
مع ازدياد الازمة الاقتصادية والمصرفية، ومع استمرار برنامج الدعم (دعم الميسورين والبضائع المهربة) والتي قد تستبطن خرقاً لقانون “قيصر”، يخشى بعاصيري من ازدياد عزلة مصرفية من المصارف المراسلة لعدم استعدادها لتحمّل المخاطر المصرفية اللبنانية. وهذا الامر سيؤدي حتما برأيه الى “صعوبة كبيرة في التحاويل لعملة الدولار الاميركي من والى لبنان، بما سيزيد الوضع المعيشي سوءا. كما قد يؤدي الى ازدياد الحركة النقدية ولكن بصعوبة كبيرة نظراً الى ما لهذه الخطوة من تعريض لبنان لمخاطر السمعة الدولية”.
ومن البديهي في هذه الحال أن تنشط التحويلات عبر شركات التحاويل المالية التي لا يمكنها ان تعوّض إلا النزر القليل، اذ لا يمكن تلك الشركات القيام بفتح الاعتمادات التجارية، كما لا يمكنها ان تقوم بتحويلات كبيرة قد تفوق الـ 10 آلاف دولار.
بمعنى آخر، يؤكد بعاصيري أنه “اذا لم تعالج الاسباب التي ادت ويمكنها ان تؤدي الى مزيد من التجنب المصرفي من المصارف الدولية في التعامل مع المصارف اللبنانية de-risking، فان البلاد ستصبح في وضع يشبه الى حد بعيد وضع غيرها من الدول التي وُضعت تحت العقوبات الدولية”.
أما الاقتصادية المتخصصة بالاسواق الناشئة عليا المبيض، فتعتبر أن قرار بعض المصارف المراسلة بقطع علاقاتها مع مصرف لبنان “يندرج في إطار التخفيف المستمر لانكشاف هذه المصارف على المخاطر المتزايدة في لبنان، والذي بدأ منذ العام 2019. وثمة أسباب عدة لذلك، منها انحسار حجم عمليات التمويل الخارجي عموما مع الانكماش الاقتصادي الحاد واستنفاد لبنان السيولة الدولارية المتوافرة، والضبابية المحيطة بوضعية مصرف لبنان الصافية من العملات الاجنبية، ومخاطر تمويل بعض العمليات المتعلقة باستيراد المواد النفطية التي يتمّ تهريب بعضها إلى سوريا في ظل العقوبات المفروضة، الى المخاطر حيال سمعة المؤسسة (reputational risk) نظراً الى ما تنشره وسائل الاعلام المحلية والعالمية من اتهامات وشبهات الفساد، في ظل التجاذب السياسي الذي يعطل التدقيق الجنائي”. فالمصارف المراسلة، وفق المبيض “تتكبد تكاليف للامتثال لمعايير إدارة المخاطر وللقوانين والأنظمة المرعية الاجراء عالمياً والعقوبات الدولية، وتكاليف الإمتثال هذه (compliance cost) هي في ارتفاع مستمر في ما خص لبنان، ولا سيما بالنسبة الى المصارف العالمية الاصغر حجما”. بيد أن المبيض تشير إلى أن “ثمة مصارف أساسية لا تزال منخرطة في التعامل مع مصرف لبنان والمصارف، إلا أن طبيعة الضمانات المتعلقة بعملية التمويل تغيرت على نحو أصبحت بمعظمها ضمانات نقدية حقيقية، بما يفرض على الاقتصاد اللبناني ككل أعباء متزايدة، في ظل تخلّف السلطة السياسية عن وقف الانهيار الحاصل واعتماد السياسات والاجراءات المطلوبة لوقف النزف وإعادة الهيكلة الضرورية لانقاذ الاقتصاد والمجتمع”.
الى ذلك، لا ترى المبيض أن انسحاب المصارف المراسلة هو نتيجة تخلّف لبنان عن سداد ديونه، “بل بسبب تعاظم المخاطر الناجمة عن تقاعس السلطات اللبنانية منذ أكثر من سنة ونصف سنة عن حسن معالجة الأزمة المالية والمصرفية التي أدت إلى هذا التخلف، ورفضها التزام تطبيق برنامج متكامل وشامل للاصلاحات الضرورية والحلول الناجعة كما حصل في بلدان أخرى”. فالمصارف المراسلة، وفق ما تقول المبيض “لم تنسحب من الارجنتين أو من الاكوادور أو من زامبيا، وجميعها بلدان تخلفت عن سداد ديونها في العام 2020، كون هذه الدول انخرطت في مفاوضات مع الدائنين ومع صندوق النقد الدولي، وباشرت تطبيق برامج إصلاح اقتصادي ومالي شامل بالتعاون مع المجتمع الدولي، على عكس لبنان”.