كتبت ريتا شمعون في “الشرق اللبنانية :
نزف في كل مكان، وسعر صرف الدولار یحلّق في كل مكان وزمان حتى تخطّى في السوق السوداء في عطلة الأسبوع عتبة الـ12500 لیرة، فیما كل المساعي لم تفلح في كبح ھذا التحلیق بسبب التطورات السیاسیة والوضع القائم في البلد. ھنا وبصرف النظر عن تلك التطورات ھل یمكن للمنصة الألكترونیة أن تنجح بخفض سعر صرف الدولار؟ وھل یستطیع وزیر المالیة غازي وزني أن یثبت وعده بتخفیض سعر الصرف الى 10 آلاف لیرة.؟ وھل الإجراءات المالیة التي یحكى عنھا لاسیما «المنصة» ستبقى من دون جدوى فعلیة إذا لم تتشكل الحكومة؟
أسئلة أجاب عنھا الدكتور مروان بركات كبیر الإقتصادیین ورئیس قسم الأبحاث لدى بنك عودة في حدیث لـ»الشرق» فاعتبر أن «القرار الصادر عن السلطات النقدیة المرتبط بإطلاق منصة تداول الدولار والسماح للمصارف بالتداول بالعملات مثل الصرّافین الشرعیین على قاعدة المنصة الالكترونیة الجدیدة المستحدثة التابعة لمصرف لبنان ھو قرار مرحّب به لتعزیز فعالیّة السوق وعمقھا واحتواء السیولة باللیرة اللبنانیة التي تتجه الى السوق السوداء، علماً ان النقد المتداول تجاوز 34 ألف ملیار لیرة الیوم وھو یمثّل ثلاثة اضعاف حجمه من سنة ونیف. أمّا السعر فیحدّده مصرف لبنان كونه المتدخّل الأكبر في المنصة التي ستبدأ عملھا في منتصف نیسان، مع العلم أن وزیر المال تحدث عن سعر مستھدف بقیمة 10 آلاف ل.ل. للدولار. إلاّ أننا نعتقد أن مفعول المنصة مرحلي وان الاحتواء الجذري لتفلّت سعر صرف الدولار في السوق الموازي رھن بتطورات سیاسیة تعید الثقة الى اللبنانیین وتحدّ من تھافتھم على تخزین الدولار في المنازل في غیاب المخارج الاقتصادیة الإصلاحیة».
وأكد بركات أن مصرف لبنان سیأتي بالدولارات من احتیاطاته بالعملات الأجنبیة علماً أننا نتمنّى الاّ یسمح بانخفاض احتیاطاته السائلة الى ما دون الاحتیاطي الالزامي للمصارف والمقدّر بـ16 ملیار دولار (%15 من قاعدة الودائع بالدولار المقدّرة بـ115 ملیار دولار الیوم)». ولفت الى ان الموجودات الخارجیة لمصرف لبنان تقدّر بـ22.5 ملیار دولار الاّ انھا تتضمن 5 ملیارات دولار من محفظة الـEurobond وبعض التسلیفات المحلیة بالعملات، ما یعني ان الاحتیاطات السائلة لا تتعدّى 17 ملیار دولار. وعليه تواجه الدولة سیفا ذا حدّین: إمّا أن تنكفئ عن التدخل في سوق القطع ما یساھم في المزید من تدھور سعر الصرف في السوق الموازیة أو أن تستنزف ما تبقّى من احتیاطات وبالتالي تضع ودائع الزبائن بالعملات الأجنبیة على المحك في نھایة المطاف. من ھنا، فإن السبیل الوحید لكسر ھذه الحلقة المفرغة یكمن في تأمین المساعدات الخارجیة مع إرساء برنامج كامل مع صندوق النقد الدولي من قبل الحكومة العتیدة یضمن صدقیة الدولة في تنفیذ الإصلاحات الموعودة ویكون له أثر الرافعة للدول المانحة بشكل عام مضیفا أن بصیص الامل الوحید على ھذا الصعید یرتبط في بذل كل الجھود لتشكیل الحكومة العتیدة، على أمل إزالة العقبات الحالیة التي تواجه التشكیل، وتشكیل حكومة ذات صدقیة بشكل وشیك، وإطلاق الإصلاحات الھیكلیة وبالتالي تعبید الطریق أمام عقد مؤتمر دولي داعم للبنان.
وعن الأسباب الحقیقیة لقفزات الدولار السریعة قال بركات: «لا یوجد مبررات اقتصادیة للذبذبات الكبیرة في سعر صرف الدولار في السوق السوداء المسجّلة مؤخّراً بل ھي مرتبطة بالتوقعات والمضاربات الظرفیة. یجدر الذكر ان الاحجام المتداولة في السوق السوداء ضئیلة جداً لا تتعدّى بعض الملایین من الدولارات ما یجعل السوق تفتقر الى السیولة والفعالیة وسعر الصرف فیھا یفتقر الى الأسس العلمیة».
في الواقع، ان التدھور اللافت في سعر الصرف في الأسبوعین الأخیرین مرتبط بشكل أساسي بالضبابیة السیاسیة المحلیة، خصوصاً في ظلّ التجاذبات الداخلیة المرتبطة بتشكیل الحكومة. فعندما یتعثّر التشكیل یرتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء وعندما تتعزّز آمال التشكیل ینخفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء كما حصل الأسبوع الماضي.
أمّا بالنسبة للعوامل البنیویة التي ادّت منذ سنة ونیف الى تدھور اللیرة اللبنانیة فھي مرتبطة بشكل خاص بانخفاض العرض وازدیاد الطلب في سیاق شحّ الدولار في السوق بالترافق مع خلق النقد باللیرة اللبنانیة. فقد تراجعت حركة الأموال الوافدة الى لبنان بشكل لافت خلال السنة الفائتة ما ادّى الى عجز في میزان المدفوعات بقیمة 10.5 ملیارات دولار في العام 2020 رغم تحسّن العجز التجاري بنسبة 53% خلال السنة. امّا لناحیة خلق النقد باللیرة، فقد زاد النقد المتداول من 10 آلاف ملیار لیرة في بدایة 2020 الى حدود 30 ألف ملیار لیرة في نھایة 2020 بارتفاع نسبته 194 % خلال العام وذلك في سیاق تنقید العجز في المالیة العامة من قبل مصرف لبنان.
وفي نظرة مستقبلیة فان آفاق سعر صرف اللیرة مرتبط بالآفاق السیاسیة المحلیة العامة والإدارة الاقتصادیة للأزمة المالیة/النقدیة والقدرة على احتواء العجزین المزدوجین في المالیة العامة والحسابات الخارجیة.
ورأى أن الخروج من ھذا المأزق لا یمكن إلاّ أن یكون عن طریق حلّ عام ینطوي على تشكیل حكومة ذات صدقیة وإطلاق عجلة الإصلاحات المنشودة وإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي وبالتالي الحصول على المساعدات الدولیة في ظلّ التأثیر الذي یتمتع به الصندوق على الدول المانحة والمؤسسات المانحة. وھنا سأل بركات: ماذا یفعل المعنیّون؟ سبعة أشھر ولم تتشكّل حكومة بعد، في بلد یعاني من أسوأ أزمة اقتصادیة بتاریخ لبنان الحدیث، وبحاجة لاستراتیجیة حكومیة للخروج من الأزمة ومقاربة أوجاع الناس.
وعن الخیارات المتاحة مستقبلاً؟ قال: «في الواقع ھناك خیاران، الخیار الأول الذي یجب تجنّبه بكافة الطرق یتمثّل بسیناریو المراوحة والجمود واللا إصلاح على مستوى الدولة والذي قد یؤدي إلى مزید من الانكماش الاقتصادي والانحراف المالي والنقدي والضغوط الجمّة على الأوضاع المعیشیة للبنانیین، في حین أن الخیار الثاني یقوم على إعادة ھیكلة منتظمة وفق برنامج إصلاحي مع صندوق النقد الدولي من شأنه أن یكون المفتاح للتصحیح الضروري للوضع المالي بشكل عام.
وفي الحقیقـة، أن خیار إعادة الھیكلة المنتظمة یجب أن یترافق مع الالتزام ببرنامج لصندوق النقد الدولي یشمل الإصلاحات الھیكلیة والمالیة المطلوبة، من شأن ذلك أن یساھم في استعادة الثقة وإطلاق مساعدات مؤتمر «سیدر» واستثمارات أخرى في الاقتصاد الوطني. وھو ما یجب أن یعتمد على خفض العجز المالي للدولة اللبنانیة عن طریق إصلاحات مالیة، إنشاء صندوق سیادي یتضمّن قسطاً من أصول الدولة اللبنانیة یقدّر بحوالي 30 ملیار دولار (یُستخدم بشكل مباشر أو غیر مباشر لتأمین ذمم المصارف علیھا وبالتالي التزاماتھا تجاه المودعین)، ضخّ السیولة في القطاع المصرفي من خلال خطوط ائتمانیة مقابل احتیاطي الذھب، ناھیك عن تحریر سعر صرف العملة الوطنیة ما من شأنه أن یخفّض من الدین العام باللیرة اللبنانیة، والبدء بمفاوضات جدّیة مع حاملي سندات الیوروبوند السیادیة» مشیرا الى أن الھدف من ھذا الاتجاه ھو ضمان توزیع عادل ومنصف للخسائر بین جمیع العملاء الاقتصادیین، وتخفیض الدین العام إلى مستویات مستدامة أي بحدود %100 من الناتج المحلي الإجمالي، وتحریر جزء من أموال المودعین من دون التطرّق إلى إجراءات Haircut، وأخیراً المساھمة في إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني وفي القطاع المصرفي لتعزیز القدرة على إعادة جذب الأموال إلى الاقتصاد المحلي بشكل عام.