التعابير السوقية التي أدرجت على الحياة السياسية مؤخرًا لم تكن مألوفة في التعاطي بين المسؤولين، إذ تكفي الإشارة إلى المراسيم الجوالة في عهد الرئيس لشيخ أمين الجميل لندرك مدى حرص المسؤولين في ذاك الزمان، يوم كانت المدافع تمنع إنعقاد جلسات لمجلس الوزراء، على مصالح الناس التي كانت تُؤمّن عبر تلك المراسيم التي كانت تتخطّى خطوط التماس والحواجز الطائفية، وكان التخاطب بين السلطات يتمّ وفق تراتبية محترمة من الجميع، ومن دون تجاوز أي سلطة لصلاحيات السلطات الأخرى، على عكس ما شهدناه مؤخرًا، حيث أجاز البعض لنفسه تجاوز أصول التخاطب، واستخدام تعبير “يُستحسن”، وهو تعبير ينمّ عن خلفية تسلطية لا تعترف بالآخر شريكًا أساسيًا في المواطنة.
فحتى في غزّ حماوة التنافس على الشعبية الجماهيرية في منطقة الشوف بين كميل وكمال (الرئيس كميل شمعون والزعيم كمال جنبلاط)، لم يكن اسلوب التخاطب السياسي بينهما ليتخطّى أدبيات البيوت السياسية العريقة وسلوكياتها وأصولها، فكانا يعرفان كيف ومتى يتخاصمان، وكيف ومتى يتصالحان، وذلك من ضمن اصول اللعبة السياسية، التي كانا يتقنانها بحرفية فائقة وبخلفية وطنية لا غبار عليها.
فإذا كان مستشارو القصر الرئاسي الجدد، الذين تنقصهم في أغلب الظنّ الخبرة السياسية الكافية، يعتقدون أنه بمجرد إستدعاء عدد من السفراء إلى بعبدا، الذين لبوا الدعوة إحترامًا لموقع الرئاسة، قد ينقذ ما تبقّى من ماء وجه العهد، بعد سلسلة متواصلة من الفشل، والتي ولدّت لدى الشعب المزيد من خيبات الأمل، فهم على خطأ فادح، لأن المطلوب في هذا الظرف العصيب والخطير في آن معًا أن ينصرف رئيس الجمهورية إلى التعالي عن المصالح الآنية، من خلال الإصرار على الثلث المعطّل لأسباب لم تعد خافية على أحد، وان يتعاطى مع الرئيس المكّلف سعد الحريري، الذي تصرّف بوعي ومسؤولية، بروح من التعاون والإنفتاح ومن دون خلفيات مسبقة، من أجل التفاهم على تشكيلة حكومية تكون وليدة قناعات مشتركة قائمة على إحترام ما ينصّ عليه الدستور لجهة الصلاحيات المعطاة لكل سلطة على حدة. وهذه الصلاحيات يجب ان تتكامل من أجل إنتاج حكومة توافقية وغير إستفزازية ولا تقوم على مبدأ المحاصصة وضمان ما يُسمى بالثلث المعطّل لفريق دون الأخر، وذلك من أجل بسط نفوذه، وإن لم يكن يرغب في أن يشارك في الحكومة، والتحكّم بقرارات السلطة التنفيذية.
وإستنادًا إلى روحية قد أصبحت من “حواضر البيت” القائمة على لائحة “أنا أو لا أحد”، فإن ما تبقّى من عهد الرئيس عون سيبقى من دون حكومة، لأن الرئيس الحريري لن يعتذر، وبالتالي لن يقبل بأن يملي عليه أحد واجباته الوطنية.