بعد استقرار نسبي لعدة أشهر، سجلت الليرة اللبنانية انهياراً تاريخياً جديداً في الأسواق الموازية، حيث تدهور سعر الصرف خلال 10 أيام فقط من نحو 8 آلاف ليرة للدولار ليلامس 15 ألف ليرة، في وقت يستقر في السوق الرسمية على 1515 ليرة، وفي المنصة المعتمدة لدى المصارف عند 3900 ليرة للدولار الواحد.
وقد انعكس التراجع الكارثي لسعر صرف الليرة إرباكاً وفوضى في الأسواق التجارية، مع تفلت أسعار المواد الاستهلاكية وفقدان عديد من السلع، لا سيما أن عديداً من المؤسسات أقفلت أبوابها وامتنعت عن استقبال الزبائن، نظراً إلى استيراد لبنان أكثر من 80 في المئة من احتياجاته.
ويعتبر المحلل الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة أن العنصر السياسي هو الطاغي على الوضع المالي في لبنان، وذلك نتيجة للخلافات التي تُعطل مفاعيل حكومة جديدة، مشدداً على وجود عناصر إضافية تسببت بهذا الانهيار الكارثي.
وقال “الدولة اليوم أمام استحقاقات عدة، منها ملف الكهرباء، الذي يتطلب صرف سلف مالية بالدولار، لتسديد كلفة شراء الفيول في ظل شح غير مسبوق في العملة الأميركية وتراجع حاد في احتياطات مصرف لبنان”.
ويلفت عجاقة إلى توجه عام نحو رفع الأجور في القطاع العام، وهو العنصر الأساس في هذه الأزمة، حيث أن هذه العملية ستؤدي إلى طباعة كميات هائلة من الليرة اللبنانية، محذراً من التداعيات الكارثية على الاستقرار الاجتماعي بعد رفع الدعم الحتمي عن المواد الأولية والغذائية، الذي بدوره سيؤدي إلى رفع الأسعار بشكل خيالي.
وقال إن “المواطن اللبناني ربما لم يشعر بعد بحجم الكارثة لأن الاستهلاك لا يزال مدعوماً بنسبة 60 في المئة”، موضحاً أنه إذا ثُبّت سعر الصرف على أربعة آلاف ليرة، ورفع الدعم، “لن يتمكن المواطن حينها من شراء معظم حاجياته”.
أما المحلل الاقتصادي لويس حبيقة فيعتبر أن ارتفاع الدولار بشكل هائل يعود إلى نسبة ارتفاع الطلب عليه في الأيام الأخيرة بالتزامن مع الشح الذي تعانيه السوق. وقال إن “الناس لم تعد تؤمن بإيجاد حلول سريعة وواقعية لأزمة البلاد، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الطلب على الدولار بشكل هائل، لحماية أنفسهم في ظل التوقعات السوداوية لمستقبل لبنان”.
ويلفت إلى أنه “بسبب غياب الشفافية ونوعية السياسيين وغياب الأفق، وعدم اقتناع الناس بالأسباب الحقيقية لأزمة لبنان، ضاعت ثقة الشعب بالمسؤولين، ما أدى إلى بحثهم عن وسائل جديدة لحماية أنفسهم عبر شراء الدولار بكميات هائلة”.
وأكد أن سعر الصرف في المرحلة المقبلة بات متفلتاً بشكل خطير، وأنه قد يحلق عالياً من دون ضوابط، مشدداً على أن “الموضوع اليوم لا يندرج ضمن إطار أزمة اقتصادية، إنما ضمن إطار الهوس والحالة النفسية للمواطن اللبناني بسبب فقدانه الثقة بالدولة ومؤسساتها”.
في المقابل، يرى المحلل المالي والاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي أن سبب الانهيار مرتبط بعوامل ثلاثة، أولها المضاربة، حيث أن مبالغ صغيرة من الدولار قادرة على تغيير كبير في سعر الصرف كون السوق اللبنانية صغيرة.
وقال “تحريك مليون دولار نقداً على سبيل المثال قد يكون قادراً على رفع السعر أو خفضه بشكل جنوني، ما يُفسر الارتفاع الخيالي لسعر العملة الوطنية والفوارق التي نشهدها خلال ساعات فقط”. ولفت إلى أن “عامل المضاربة هو نتيجة استغفال المضاربين للبنك المركزي والدولة، وعدم وجود أي رادع لهم”.
أما العامل الثاني فهو تقني يُفسر حدية التضخم في الكتلة النقدية في البلاد، “إذ إن هناك عشرات التريليونات من الليرات اللبنانية نتيجة الطبع المستمر منذ سنة”، مشيراً إلى أن هذه السياسة من قِبل البنك المركزي زادت الديون على خزينة الدولة، في وقت لا يوجد استقطاب للدولارات والعملات الصعبة.
والعامل الثالث هو نفسي، وتزداد حدته “بسبب رفض حاملي الدولارات النقدية التخلي عنها واعتبارها الملاذ والملجأ، ما يجعل الدولار غير معروض بشكل يوازي الطلب”.
وكشف بأن الإقفال العام في البلاد بسبب جائحة كورونا “كلف الاقتصاد اللبناني المشلول أساساً نحو مليار و800 مليون دولار أميركي”، منتقداً سياسة دعم السلع الاستهلاكية التي كلفت الدولة نحو 6 مليارات دولار منذ مطلع العام الماضي، بحيث باتت كلفته أكبر بكثير من منفعته ولم يستفد منه إلا نحو 30 في المئة من اللبنانيين، في حين حقق التجار والمهربون أرباحاً خيالية.
يرى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، أن التعميم الذي أصدره مصرف لبنان والذي طلب بموجبه زيادة رأسمال المصارف، سرع وتيرة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، مضيفاً أنه “طلب من المصارف أن تزيد ودائعها عند المصارف المراسلة بالدولار، ما دفع بعضها للجوء إلى السوق المحلية الموازية، ما تسبب بزيادة الطلب على الدولار وتسريع وتيرة الارتفاع”.
وأشار مارديني إلى أن “الوضع الاقتصادي في لبنان اليوم سيء جداً، ومن المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي من 52 مليار دولار عام 2019 إلى 18 مليار دولار عام 2020، في ظل نمو سلبي وتضخم مفرط وتدهور لسعر الصرف”. ودعا إلى “الإسراع في إنشاء مجلس نقد يستطيع أن يوقف الارتفاع خلال 30 يوماً وأن يرجع الثقة بالليرة”.
من ناحيتها، نفت جمعية مصارف لبنان مسؤوليتها عن الارتفاع غير المسبوق في سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية.
وفي تصريح صحافي صادم، لم يستغرب الرئيس الأسبق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود الارتفاع المتواصل في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، لأن “لا أفق واضحاً للحل في لبنان”، قائلاً إن “الأزمة في لبنان ظاهرها اقتصادي – نقدي غير أن باطنها سياسي بامتياز”.
وتوقع حمود أن “يصل سعر صرف الدولار إلى 100 ألف ليرة في الأشهر المقبلة إذا استمر التأزم السياسي، لأن عودة الثقة بالليرة مرتبطة بهيبة الدولة”.
وفي وقت سجلت الليرة اللبنانية خسارة نحو 90 في المئة من قيمتها، قال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب لوكالة “رويترز” إنه يمكن الإبقاء على دعم بعض المواد الغذائية حتى يونيو (حزيران) المقبل، في حين أن دعم الوقود قد يتوقف بعد مارس (آذار) الحالي.
المصدر : ch23