من الواضح أن لجوء السلطتين السياسيّة والنقديّة إلى فكرة خلق النقد، واستسهال طباعة الليرات على حساب قيمة الليرة وقدرة محدودي الدخل الشرائيّة، لا يمثّل مسألة مستجدة في سياق الأحداث التي تلت حصول الأزمة الماليّة.
تتسم المقاربات الرسميّة للأزمة المتفاقمة في لبنان بالعشوائيّة والتخبّط، وهو ما ترك المصرف المركزي والسلطة السياسيّة أمام الخيار الأسهل دوماً، أي الاعتماد على التوسّع في طباعة العملة للتعامل مع المشكلات الراهنة.
لكن لهذا الخيار كلفة قاسية، على شكل تضخم مفرط وتهاوٍ في سعر الصرف، وهي كلفة تتحملها حاليّاً الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. بالتأكيد، سيحتاج الخروج من هذا المستنقع رؤية متكاملة للحل، تبدأ من تنظيف ميزانيات المصارف ومصرف لبنان من الخسائر التي لا يعرف أحد تفاصيلها اليوم، بغياب التدقيق الجنائي، وبسياسة تعيد توحيد أسعار الصرف وتخلّص اللبنانيّين من ظاهرة الفوضى في السياسة النقديّة. لكنّ هذه الإجراءات تحتاج إلى قيادة سياسيّة متينة وصارمة، تضع نصب أعينها مصالح الفئات الاجتماعيّة الأكثر تضرراً من الأزمة، وهذا ما يفتقده اللبنانيون بشدّة.
في مشروع القانون الجديد الذي قدّمه، أضاف النائب علي حسن خليل سبباً آخر لخلق المزيد من النقد بالعملة المحليّة، ودفع الليرة اللبنانيّة إلى انهيار إضافي. فمشروع القانون، الذي ينص على منح ما يقارب 120 ألف عنصر وضابط من الأجهزة العسكريّة والأمنيّة، دفعة شهريّة بقيمة مليون ليرة لمدة ستة أشهر، لن يعني سوى لجوء الدولة إلى مصرف لبنان لاقتراض المبالغ المطلوبة لتمويل الدفعات، في ظل العجز الذي تعاني منه ميزانيّة الدولة وانعدام قدرتها على الاقتراض من القطاع المصرفي. وفي المحصّلة، يمكن القول إن إجمالي المبالغ التي سيتم طبعها بالليرة اللبنانيّة لتمويل هذه العمليّة ستتجاوز حدود الـ720 مليار ليرة لبنان، وهي قيمة ستضاف إلى ما يقارب 28 ألف مليار ليرة من النقد الذي تم طبعه وضخّه إلى السوق اللبنانيّة منذ أيلول/ سبتمبر 2019، للتعامل مع بعض جوانب الانهيار المالي الذي تشهده البلاد حاليّاً، وهو ما مثّل السبب الأساس لتهاوي سعر صرف الليرة اللبنانيّة. مع العلم أن هذه المبالغ التي تمت طباعتها من النقد بالليرة، أدت إلى تضاعف حجم السيولة المتداولة بالليرة منذ أيلول 2019 بنحو 5.3 مرّات.
في المبدأ من المؤكّد أن تصحيح أجور جميع العاملين في القطاعين العام والخاص، يُفترض أن يمثّل أولويّة لدى السلطة السياسيّة، وخصوصاً بعد ما لحق بهذه الأجور من تراجع نتيجة التضخّم القاسي الذي تشهده الأسواق اليوم. لكنّ هذا التصحيح، كان ينبغي أن يأتي من ضمن خطة واسعة للتعامل مع مختلف جوانب الأزمة الماليّة، بما فيها حجم النقد المتداول بالليرة اليوم في الأسواق، وكيفيّة إعادة الانتظام إلى الميزانيّة العامّة لتأمين السيولة المطلوبة لهذه الزيادة من دون طبع النقد. وهذا النوع من التصحيح، يختلف حكماً عن فكرة تخصيص فئة محددة بزيادة عبثيّة وغير مدروسة عبر طبع النقد، بهدف استرضائها وتأمين ولائها بالنظر إلى الدور الأمني المطلوب منها في المرحلة المقبلة. لا بل يمكن السؤال هنا عن سبب تخصيص هذه الفئة بالتحديد بهذه الزيادة، التي ستأتي على حساب قيمة النقد والأجور، في مقابل تجاهل ما يقارب 200 ألف من موظفي سائر المؤسسات العامّة، إضافة إلى موظفي القطاع الخاص، الذين يدفعون يوميّاً كلفة التضخم وتهاوي قيمة الليرة وتراجع قيمة أجورهم الشرائيّة.
في كل الحالات، من الواضح أن لجوء السلطتين السياسيّة والنقديّة إلى فكرة خلق النقد، واستسهال طباعة الليرات على حساب قيمة الليرة وقدرة محدودي الدخل الشرائيّة، لا يمثّل مسألة مستجدة في سياق الأحداث التي تلت حصول الأزمة الماليّة. خلق النقد بشكل واسع ومنظّم يحصل منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 لأسباب كثيرة، منها ما يتصل بتأمين بعض مصالح القطاع المصرفي، كسداد التزامات الدولة للمصارف بالليرة اللبنانيّة أو السماح للمصارف بسداد التزاماتها المدولرة للمودعين بالليرة، ومنها ما يتصل بميزانيّة الدولة وتمويل إنفاقها. وفي الحالتين، ساهمت تلك القرارات بتوسّع حجم الأموال الورقية المتداولة بالليرة، التي تحوّلت لاحقاً إلى طلب على الدولار وضغط على سعر صرف الليرة سواء للاستيراد أو الادخار، وهو ما مثّل عاملاً أساسياً من عوامل التأزم النقدي. وبهذا المعنى، لم يعد تهاوي سعر الصرف مجرّد نتيجة مباشرة للأزمة نفسها، بل بات نتيجة للمعالجات التي قررت السلطتان السياسيّة والنقديّة اللجوء إليها، وأصبح طريقة لإجبار اللبنانيين على دفع جزء أساسي من ثمن خسائر الانهيار الحاصل.
طباعة النقد لمصلحة المصارف
يوم قررت الدولة الدخول في مرحلة التعثّر والامتناع عن سداد سندات اليوروبوند، أي سندات الدين المقوّمة بالعملة الصعبة، كانت تلك اللحظة مناسبة مثاليّة للشروع في عمليّة تفاوض مع جميع الدائنين لإعادة هيكلة الديون العامة، وفق آجال جديدة وحسومات معينة من قيمة السندات، ووفق فوائد جديدة. مع العلم أن الدولة اللبنانيّة كانت أعلنت بالفعل نيّتها التوقف عن سداد جميع الديون بانتظار الدخول في مرحلة المفاوضات هذه، وهو ما تحفّظت عليه المصارف وحلفاؤها في المجلس النيابي الذين رفضوا التفاوض على قيمة ديون الدولة بالليرة اللبنانيّة، وأصروا على حصر التفاوض بسندات اليوروبوند المقومة بالعملات الأجنبيّة فقط.
من ينظر في ميزانيات المصارف اليوم، سرعان ما سيلاحظ أن المصارف خفّضت حجم توظيفاتها في سندات الدين بالليرة اللبنانيّة من نحو 24.25 ألف مليار ليرة في شهر تشرين الأول 2019، إلى ما يقارب الـ17.27 ألف مليار ليرة فقط في نهاية العام الماضي. بمعنى آخر، وبعد اتخاذ الدولة قرار التوقّف عن سداد ديونها في شهر آذار/ مارس 2020، وبعد سقوط خطة الحكومة الماليّة وتعثّر مفاوضتها مع المصارف، عادت الدولة إلى سداد سندات الدين بالليرة اللبنانيّة للمصارف وفقاً للآجال والقيم والفوائد ذاتها، ودون التفاوض عليها.
عمليّاً، ووفق هذه الأرقام سددت الدولة خلال هذه الفترة ما يقارب 6.98 ألف مليار ليرة للمصارف، وهذه المبالغ حصلت عليها الدولة من مصرف لبنان، الذي كان يقوم بخلق النقد وإقراضه للدولة لتتمكن من القيام بهذه العمليّة. وبذلك، كانت طباعة الليرات وخلقها تستمران طوال تلك الفترة لتجنيب المصارف كأس التفاوض على ديون الدولة، ولتجنيبها تحمّل أي خسارة ناتجة عن تعثّر الدولة في سداد الديون. مع العلم أن الليرات التي طُبعت لإجراء هذه العمليات توازي وحدها ربع قيمة النقد الذي تم خلقه خلال الفترة التي تلت أيلول/ سبتمبر 2019، وقد ساهمت هذه العمليّة بوضوح في تهشيم قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي.
إضافة إلى طباعة النقد لتمكين الدولة من سداد ديونها للمصارف، ثابر مصرف لبنان على خلق النقد لأسباب أخرى، تتصل أيضاً بمصالح القطاع المصرفي. فبعد توقّف المصارف كليّاً عن سداد التزاماتها للمودعين بالدولار الأميركي، نتيجة تعثّرها، ابتدع مصرف لبنان تعميمه الشهير رقم 151، الذي سمح للمصارف بسداد قيمة هذه الودائع وفق سقوف متفاوتة واستنسابيّة بالليرة اللبنانيّة، وفق سعر صرف خاص سماه “سعر صرف المنصّة”. مع العلم أن المصارف كانت تحصل على السيولة المطلوبة لتنفيذ هذه العمليات عبر سحب ودائعها المدولرة من مصرف لبنان، بالطريقة نفسها، أي عبر سحبها بالليرة وفقاً لهذا السعر. وبذلك، كان من الواضح أن مصرف لبنان لجأ إلى هذه الطريقة لتمكين المصارف من التعامل مع أزمة الودائع، من دون الاضطرار إلى تحديد خسائرها والتعامل معها. مع العلم أن المصارف كانت قادرة على سداد نسبة كبيرة من هذه الودائع بالدولار النقدي، لو أنها شرعت منذ أكثر من سنة في عمليّة تحديد دقيقة للخسائر للتعامل معها تدريجاً، لكنّ ذلك لم يناسب حكماً مصالح المساهمين في القطاع الذين رفضوا فكرة شطب نسب وازنة من رساميلهم، مقابل التعامل مع جزء من هذه الخسائر.
في كل الحالات، يصعب اليوم تحديد رقم دقيق لحجم السيولة التي خلقها مصرف لبنان بالليرة اللبنانيّة، لسداد قيمة الودائع المدولرة بالليرة وفقاً للتعميم رقم 151، وذلك يعود طبعاً إلى غياب الشفافيّة والتفاصيل المطلوبة في الأرقام التي يعلن عنها المصرف المركزي. لكنّ الأكيد أن حجم الودائع بالعملات الأجنبيّة في القطاع المصرفي يتجاوز اليوم مستوى الـ110 مليارات دولار، فيما حجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان بالليرة لا يتجاوز حدود 22.88 مليار دولار، وفقاً لأرقام مصرف لبنان نفسها، ما يعني أن عمليّة سحب الودائع المدولرة بالليرة، ستترك أثراً خطيراً على حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة على المدى الطويل، وعلى قيمة العملة المحليّة نفسها.
طباعة النقد لتمويل الدولة
في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد، وانخفاض العوائد الضريبيّة التي تستفيد منها الدولة، وفي ظل تهاوي قيمة هذه العائدات نتيجة انهيار سعر الصرف، توقعت مؤسسة التمويل الدوليّة أن يتجاوز العجز في الميزانيّة العامّة، أي الفارق بين واردات الدولة ونفقاتها، الـ8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد. وفي ظل غياب أي مصدر للإقراض، تعتمد الدولة حاليّاً على مصرف لبنان للاقتراض، الذي يقوم بالاكتتاب بسندات الخزينة لتمويل نفقات الدولة المختلفة. وعمليّاً، تمثّل هذه العمليات مصدراً أساسياً من مصادر خلق النقد بالليرة اللبنانيّة وضخها في السوق المحلي، وبالتالي الضغط على سعر الصرف في السوق. وخلال المدى المنظور، من غير المرتقب أن تتمكن الدولة من عكس هذه المعادلة، خصوصاً أن الاستمرار في حالة الإفلاس الحاليّة لا تعني سوى عدم قدرة الدولة على الولوج إلى أسواق المال للاقتراض من مصدر آخر. وكما هو معلوم، لم تنجز الدولة حتى اللحظة ميزانيّة العام الحالي، وقد شرّع مجلس النواب للسلطة الاستمرار وفق قاعدة الإثني عشريّة، أي وفق سقوف إنفاق العام الماضي ذاتها.
المصدر: درج – علي نور – صحافي لبناني