لعل أهم ما في الجولة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية العارمة انها أكدت المؤكد: السلطة في واد والناس في واد آخر. ففي غياب الرؤية البعيدة المدى والحوكمة الرشيدة، لم يجد أركان الحكم حلا أفضل من الركون إلى “المسكّنات” بدلا من الغوص في أعماق المشكلات لحلها واقتلاع جذورها.
هذه هي القراءة التي تقدمها مصادر سياسية متابعة، غداة دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري ممثلي الأمة إلى جلسة تشريعية تعقد الأولى والنصف بعد ظهر الجمعة 12 آذار الجاري في قصر الأونيسكو، بما يتيح اتخاذ تدابير التباعد الاجتماعي بين المشاركين، مع العلم أن عددا منهم تلقوا اللقاح في مقر المجلس قبل أسبوعين، في فضيحة دوى صداها في أرجاء الوطن من غير أن يرف للمعنيين بها جفن.
على أي حال، فإن المصادر تدعو إلى تجاوز هذه الشكليات، مفضلة الغوص في الرسائل السياسية وراء هذه الخطوة. وفي السياق، تشير إلى أن بري يتوخى أولا امتصاص الغضب الشعبي العارم لأسباب عدة. ذلك أن أحدا لا يشك في أن العلاقة على خط بعبدا- عين التينة ليست في أفضل أحوالها، بدليل أن المحطة التلفزيونية الناطقة باسم رئيس المجلس تدأب على شن الهجمات السياسية على العهد، وقد بلغت بها الأمور حد تأمين النقل المباشر لوقائع التجمع الشعبي الحاشد في بكركي تأييدا لمواقف البطريرك الماروني الكارينال مار بشارة بطرس الراعي في 27 شباط الفائت. مع العلم أن الراعي ألقى خطابا تاريخيا ناريا لم يخل من السهام السياسية في اتجاه العهد.
وفي السياق عينه، تنبه المصادر إلى أن رئيس المجلس يريد إطلاق الاشارات المريحة في اتجاه الحراك ليرفع عن حركة أمل تهمة إرسال “المندسين” لشرذمة التحركات الشعبية، بعدما سجل إطلاق نار في الهواء يوم السبت الفائت في ساحة الشهداء، ووجهت أصابع الاتهام إلى أحد أبناء الخندق الغميق، ذي الانتماء السياسي المعروف. وقد أعقب هذه الحادثة انتشار فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر الحركة الاحتجاجية تبلغ شوارع الضاحية الجنوبية، معقل الثنائي الشيعي الأول.
أما في المضمون، فلا تخفي المصادر خشيتها من ألا تفي الجلسة النيابية بالغرض المرجو منها. ذلك أن قراءة سريعة لجدول الأعمال المقتضب للجلسة تشي بأنه لا يقارب الأولويات الملحة التي قادت الناس إلى الطرقات مجددا. فباستثناء البند المتعلق بإنشاء شبكة الأمان الاجتماعي في مواجهة كورونا، والثالث المتعلق بتعديل قانون القروض السكنية المقدمة من مصرف الاسكان لرفع قيمتها (من 300مليون إلى 450 مليون ليرة، ومن 450مليون ليرة إلى 600 مليون ليرة)، تغيب مشاريع واقتراحات القوانين التي يطالب بها الناس والمجتمع الدولي، على اعتبارها شروطا إصلاحية ضرورية.
وتعتبر المصادر أن في وقت لا تزال العقد الحكومية الكأداء عصية على الحل، لم يجد نواب الأمة ضرورة لدراسة مشاريع واقتراحات قوانين من شأنها أن تخرج البلاد من كبوتها، كقانون الكابيتال كونترول، وذاك المتعلق باسترداد الأموال المنهوبة والمهربة منذ 17 تشرين 2019، إلى جانب قوانين أخرى مرتبطة بالكهرباء، على سبيل المثال، لا الحصر.
ولتفسير هذا الطلاق المتجدد بين الشعب وممثليه، لا تسقط المصادر من حسابها غياب الأصوات المعارضة عن المجلس منذ كارثة المرفأ، إضافة إلى الكباشات السياسية المعتادة، خصوصا بين بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وبينه وبين رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب. وتذكر في هذا المجال بأن الرئاسة الثانية أعدت بكثير من التأني خطة إسقاط حكومة دياب في آب الفائت، بعدما قطعت عليها طريق إقرار الكابيتال كونترول وسائر القوانين الاصلاحية، بعيد إطاحة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، في خطوة يمكن تفسيرها على أنها استجابة لضغوط حزب الله، الذي دفع رئيس الحكومة أيضا إلى واجهة الحملة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على رغم معارضة بري هذا التوجه.
المصدر: المركزية