سجّل سعر صرف الدولار رقمًا قياسيًّا جديدًا، مقتربًا من عتبة الـ 10000 ليرة. صحيح أنّ المؤشّرات السياسيّة والإقتصاديّة على حدّ سواء فاقعة السلبيّة، وتبرّر في مكان ما المسار التصاعدي للدولار، خصوصًا في ظلّ التمادي في التعنّت السياسي وقرب نفاذ احتياط مصرف لبنان من العملات الصعبة، ولكنّ المفارقة أنّ السعر الذي استقر بين 7 و8 آلاف ليرة على مدى أكثر من شهرين، حلّق بغضون ساعتين ليتجاوز عتبة 9000 ليرة. فأي متغير حصل بغضون ساعات قليلة، وجعل الدولار يستنسخ جنون تموز الماضي حين لامس عتبة 10 آلاف ليرة ؟
لم يشكِّل ارتفاع سعر الصرف سابقةً بحدِّ ذاته، بل بتوقيته وسرعته ومعدَّله، وفق البروفسور مارون خاطر، الاستاذ المحاضر والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. في حديثه لـ “لبنان 24″ يلفت إلى أنّ الدولار عاود ارتفاعه بعد فترة من الإستقرار الملتبس وذات المنحى التصاعدي غير الإنكفائي، إذ حصل ذلك في وقت لم يطرأ تغيرات مهمة على المشهد القاتم، ولعلَّ أكثر ما يضع هذا الارتفاع القياسي في مرمى الشبهات حدوثه ليلاً، وفي فترة زمنية قياسيّة لا تتجاوز الساعتين”.
من يتحكّم بسعر الصرف بالريموت كونترول ويفاقم عتمة نهاراتنا؟ وهل يخضع هذا الفلتان الفجائي لمعادلة العرض والطلب، بمعنى هل ارتفع الطلب إلى حدود كبيرة فيما البلد لا يزال مقفلًا؟
المضاربة خلف جنون الدولار
ينطلق البروفيسور خاطر من توقيت الإرتفاع وسرعته، مشيرًا إلى أنّ هذا المنحى يدفعنا إلى الإعتقاد، بل الجزم، بأن سعر الصرف ارتفع بفعل فاعلين كثر ” بحيث لم تَحجُب عتمة الليل وسكينة النفوس قذارة التطبيقات ومشغّليها، كما لن يخفي جنح الظلام والظلم والعبثية وخم من وراء أولئك المشغِّلين. لا يمكن أن يكون ارتفاع سعر الصرف محصلّة للعرض والطلب في سوق القطع المقطوعة الأوردة، ولا نتيجةً لازدهار التجارة أو خوف المدخرين في زمن الإقفال والجوع، بل إرتفاع سعر الصرف سببه جشع المتموّلين والمتحكّمين ممن أساؤوا أمانة الكثير فلا يصعب عليهم القليل. ليس هناك في العالم أجمع من عملة تخسر، بفعل العرض والطلب، ما خسرته الليرة في تلك الليلة، وما سبَّب الارتفاع الجنوني لسعر الصرف هو على الأرجح، المضاربة التي تنفذها جثثٌ مصرفية متحرِّكة”.
الإرتفاع الفجائي بوتيرته السريعة والصادمة في آن، حصل مع قرب انتهاء المهلة التي حدّدها مصرف لبنان للمصارف بنهاية شباط، لزيادة رساميلها بنسبة 20 %، فهل تتذاكى المصارف وتعمد لزيادة رساميلها من الداخل، وأي دور لها في المضاربة والمساهمة في تقلبات السعر؟
من المرجَّح أن يكون التعميم 154 السبب الرئيسي لما شهده سوق القطع في الأيام الأخيرة وفق قراءة خاطر “هذا التعميم المُمَدَّد يُلزم المصارف بتكوين حسابات خارجيّة لدى المصارف المراسلة بما قيمته 3% من الودائع. المصارف التي فشلت في “حثّ” زبائنها على إعادة جزء من أموالهم المحوّلة، عمدت إلى التفتيش عن مصادر أخرى لتأمين الدولار. فالمصرف المركزي لم يتجاوب حتى الساعة مع طلبات التعديل المشبوهة لهذا التعميم، كما لم يمدِّد المهل. يبدو أن المصارف قررت عدم الإكتفاء بحجز 100% من الودائع، فتوجّهت إلى سوق القطع في محاولةٍ لجعل المبلغ المحجوز يصل إلى 103% من قيمتها، في خطوة جائرة تستهدف المودعين وغيرهم من الفقراء والمحتاجين. مع اقتراب نفاذ المهل، باتت الشيكات المصرفية المحررة بالليرة تحوَّل إلى الدولار بأقل من 25% من قيمتها الاسميَّة. يحصل ذلك بالتزامن مع ارتفاع غير مسبوق للعرض لناحية عدد الشيكات وقيمتها. وتَجدُرُ الإشارة إلى معلومات تشير الى أنّ المصارف كانت قد دخلت على خطّ المضاربة، وإن بوتيرةٍ أقل، منذ إصدار التعميم 154. لذلك، قد تكون الزيادة القياسيَّة في سعر الصرف ناتجة عن احتدام المضاربة بين المصارف نفسها، في محاولة للاستحصال على الجزء الأكبر من الدولار الحقيقي المتوفِّر في ظل شح العرض”.
ثلاثية سياسية اقتصادية وصحيّة
دخول المصارف على خطّ المضاربة وما ذُكر من أسباب، لا يُلغي المفاعيل السلبيّة السياسيَّة والاقتصادية والصحيَّة وتأثيرها على ارتفاع سعر الصرف منها وفق البروفيسور خاطر “استمرار انسداد الأفق الحكومي وازدياد التراشق العبثي بين صانعي القرار، لا بل بين وكلاؤهم. انكماش الإقتصاد وغياب التدفّقات بسبب فقدان الثقة المحِقّ، تداعيات رفع الدعم غير المعلن، التهريب وجائحة كورونا وزيادة أسعار النفط عالميًّا، بالإضافة إلى استمرار طبع العملة وعدم توحيد سعر الصرف. تساهم هذه العوامل مجتمعة بتفاقم الكارثة، إلا أنها كانت موجودةً يوم كان سعر الصرف يشهد إستقراراً حذراً مما يدعم نظريتنا”.
أضاف خاطر “السؤال الأبرز ليس فعلاً لماذا ارتفع سعر الصرف أو لماذا قد يرتفع، بل كيف ينهض اقتصادٌ وتبنى ثقة بقطاعِ مصرفي تدور حوله شبهة المضاربة في سوق القطع بعد جريمة إساءة الأمانة؟ ستنتفض المصارف غداً أو بعد غد وفي انتفاضتها وجع أكبر. كيف لمن لم يعرف بعد من قتل شعبه ودمر عاصمته أن يعرف من يتلاعب برغيف خبزه … فالموت والذُّل سيان!”
لا حدود لارتفاع سعر صرف الدولار بظل استمرار الأزمة السياسيّة التي تحول دون حصول تدفقات خارجية، خصوصًا عندما يتجاوز الدولار الحاجز النفسي المتمثّل بالرقم 10000. والنتيجة، اللبنانيون على عتبة المجاعة في ظل انعدام القدرة الشرائية، فمن يوقف تلك اللعبة الشيطانية، وهل من قدرة على إحياء الضمائر الميتة لدى أهل الحل والربط ؟
المصدر: لبنان24