أرادَ السيّد حسن نصرالله من وراء الموقف الذي أطلقه حيال التحذير من طروحات “التدويل”، وإعتبارها دعوة “حرب واحتلال”، خلال إحياء ذكرى “الشهداء القادة”، أن تأتي الدعوة إلى “الحذر والهدوء” وإعادة التفكير، بالإعتماد على قاعدة المنهج السليم بما يتضمّنه من ابتعاد عن الخيارات التفجيرية.
لكن ثمة من وجد أن أمين عام “حزب الله”، بكل ما يختزنه من عناصر وفائض قوة، أراد أن يُهدّد بكركي، لما تحمله من مكنونات مسيحية ووطنية صَرفة، وأن في كلامه “مشروع مشكل”، لذلك اعتمد النص، من أجل التشويه، ثم سوّق تحليلات انحصرت جميعها في إطار التجييش ووضع العلاقة، الملتبسة أصلاً بين بكركي والضاحية، على فوهة بركان، والهدف افتعال اشتباك سياسي ـ ديني يأخذ أبعاداً مختلفة ويمكن الإستثمار به.
ليس سراً، أن ثمة طرفاً أو أكثر، يمكن تصنيفهم من بين المتضرّرين من أي تقارب يُحتمل أن يحصل بين الضاحية وبكركي، وقد شهدنا على أمثلة معيّنة حين مال “سيّد الصرح” مرّةً نحو نظرية “حزب الله”، وذلك في مستهل انتشار الإرهابيين أفقياً وعامودياً في سوريا.
في الواقع، إن علاقة الضاحية ببكركي يشوبها الإلتباس دوماً. ففي غمرة القطيعة بين بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للموارنة، مع الممثل السياسي والديني للشريحة الأكبر من الشيعة، كانت ثمة اختراقات تحصل في مجال التهنئة والتعزية بالمناسبات الدينية والشخصية وما شابه، ما يدلّ إلى وجود “قناة مفتوحة ومفعّلة دوماً” تتولّى مهمة ترتيب “العلاقة” وتقريب وجهات النظر، وبالتالي، يمكن الركون إلى تلك القناة في حالة “الإرتياب المشروع”. وهنا، لماذا لم يتم اللجوء إليها حين صدر كلام السيّد نصرالله وصُوّرَ بعكس مضمونه وبخلافه، ورفعت تحليلات بعض الكتّاب إلى مقام أسمى من البحث عن خلاصة الموقف؟
عملياً، ما طرحه السيد من أفكار، يندرج في البداية ضمن خانة “الموقف السياسي”، فنصرالله، بما يمثله من قوة سياسية كبيرة نظراً إلى زعامته لأحد أكبر الأحزاب اللبنانية، لهو أمرٌ طبيعي أن يبدي رأياً في قضية سياسية طُرحت على النقاش العلني وعبر الإعلام، كما أن كلامه، من حيث مضامينه والسياق الذي ورد فيه، لم يحمل، ولو في أي من جزئياته، المُضمَر منها والمُعلَن، أي تهديد أو تلويح بالتهديد إلى بكركي، بل اقتصر موقفه على تقديم وجهة نظر حزبه. وفي مقام آخر، كان لا بدّ من أخذ الموقف بنية صالحة وسليمة واعتباره مقدّمة لافتتاح نقاش وطني حول تلك الدعوات والغاية منها، لا تكبير الحجر وتحوير قضية إبداء “رأي” إلى مسألة “تشهير”، سقطت في حفرة ردود الفعل غير المتوازنة.
وفي مناسبة هذا الكلام، ثمة أكثر من طرف داخلي يعلم، أن هناك “جوقة سياسية” مؤلّفة من كتّاب وسياسيين، تكمن مهمتها في اختراع الأزمات وإسقاطها على الواقع السياسي وتسويقها، وذلك من خلال اعتماد أكثر من نموذج، من بينها تضخيم التصريحات التي تصدر عن مسؤولين في “حزب الله” وتجييرها في عكس واقعها، من منطلق اعتمادها كأسباب للشكّ في نوايا الحزب، أو من قبيل استخدامها في مشروع “الحَرتَقة” عليه، وهو ما يغذّي ردود الفعل عليها انطلاقاً من مجافاة قراءتها للواقع، تماماً كما حدث في قضية موقف السيد نصرالله من موضوع التدويل.
من هنا، ثمة معلومات لدى الحزب نابعة من مصادر مختلفة، تفيد بوجود نوايا لتضخيم أحداث متّصلة بظروف معيّنة وتصريحات، لذلك، يعمل الحزب قدر الإمكان على الإستفاضة في الشرح والإيضاح، في محاولة منه لسحب ذرائع الإستخدام السيء بحال توفّرت. وعلى نفس القاعدة، شعر الحزب بُعَيد خطاب ذكرى “الشهداء القادة”، أن ثمة من “يَدُقّ اسفيناً” بين بكركي والضاحية تحت جَنح الليل، من خلال مقالات، كُتبت من قبل “أشباح” بالنظر إلى المضمون المشابه الذي وُزّع على أكثر من جهة وحمل الهدف نفسه، أي الإشارة إلى استخدام “حزب الله” لسياسة “ترهيب بكركي”، وهذا كان يُؤمَل منه أن يدفع باتجاه شدّ العصب المسيحي أولاً تجاه بكركي وضد الحزب، ومن مضامينه أيضاً إثارة النعرات لدى الفئة المسيحية المتحالفة مع الحزب، ودفعها إلى اتخاذ مواقف قد تجرّ نحو زيادة الشَرخ بين الحليفين.
بالنسبة إلى “حزب الله”، لهو أمر مرفوض أن يجري تصوير كلام السيد بمثابة تهديد لغبطة البطريرك. فصحيح أن ثمة الكثير من نقاط الخلاف بين الجانبين، لكن الضاحية ليس في مفهومها السياسي من وجود لمنطق الإبتزاز، وأن معارضة أي خيار من أي جهة أتى، هو أمر طبيعي و”ديمقراطي صَرف” ودليل على سلامة الحياة السياسية.
ولوحظَ، أن التحريض على افتعال اشتباك بين الضاحية وبكركي، تزامن وزيارة السفير السعودي وليد بخاري إلى الصَرح، ما استُخدم في محاولة الإيحاء بأن السعودية تعمل على استثمار “سوء التفاهم” بين الجانبين، رغم أن أطرافاً محسوبة على السفارة، جزمت أن الزيارة تندرج ضمن جولة يقوم بها بخاري إلى المرجعيات الدينية المختلفة بعد غياب مدة من الزمن.
المصدر: ليبانون ديبايت – عبدالله قمح