لقد أصبحَ واضحاً من مَسار التحقيقات في جريمة مرفأ بيروت، بأن التحقيق لن يتمكّن من الكشف عن المجرم الحقيقي الذي أرسل باخرة “الموت” إلى بيروت وسبّب انفجار المرفأ.
منذ أيام تُرِكَ العماد السابق للجيش بعدَ التحقيق معه بالرغم من أنّ صلاحية الجيش تنعقد في كل مرة يتعلّق الموضوع بمواد شَديدة الإلتهاب أو خطرة على أمن العُموم، وهو الأمر المشار إليه صراحةً بقانون الأسلحة والذخائر حصرياً، فلا يمكن لأيٍ كان حتى أن يُدخل عود كبريت إلى مرفأ بيروت من دون موافقة الجيش المسبقة.
فكيف حصلت الباخرة روسوس على إذنٍ مسبق للدخول إلى المرفأ وهي تنقل حمولة “حربية” على درجةٍ عالية من الخطورة؟
عندما يتعلّق الموضوع بالأمن القومي يُفترض على الجيش أن يتحرك “عفواً” أي كما يقال في القانون الفرنسي “d’office” وليس على “خاطر” أي قائد أو مدير أمني لُيبدي رأيه بمسألة بيع المواد الخطرة كي لا يحصل ما لا يُحمد عقباه، والدليل ما حصل.
فضلاً عن أن المحقّق العدلي ذهب باتجاه فرضية حادثة “التلحيم ، من دون أن يَشرح للشعب اللبناني كيفَ أن عملية التلحيم التي أنجزت حوالي الساعة الثانية من بعد الظهر، أدّت إلى تفجير في الساعة السادسة مساءً من اليوم نفسه، ومن دون التحقّق من فرضيات أخرى ترخي بظلالها على مستقبل التحقيق القضائي بفعل ما استُجّد من وقائع، بقيت في طيّ الكتمان بفعلِ إهمال المحقّق نفسه لها.
“الفرضيّة الأولى” والتي تكلّمَ عنها الوزير واللواء السابق أشرف ريفي، الذي اتهمَّ “حزب الله” بمسؤوليته عن متفجرات كانت مخزّنة لصالحه داخل العنبر 12، والتي جاءت لتواكب تصريحات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أمام مجلس الأمن عن تلك الأسلحة، تزامناً مع شائعات تفيد بأن الحزب أراد إحراق العنبر 12 لتغطية كمية النيترات التي كان قد استعملها سابقاً، إما لمصلحة النظام السوري عبر تهريبها إليه أمّ لمصلحتهِ الشخصية، إما عبرَ التخزين في أنحاء أوروبا في شمال غربي لندن تحديداً وجنوب إلمانيا، أم عبر استعمال كميات منها لتعزيز عبوات إستعملها للتفجير في اليمن والعراق، وكلّ ذلك من مجموعِ ما كان مُخزّناً في العنبر المذكور.
إلا أن حسابات الحزبِ في الكيمياء لم تأتِ دقيقة بقدرِ ما اشتهاها، إذ لم يفطن إلى أن إحداث حريق بالقرب من النيترات سيؤدي إلى تفجيرها بدلاً من حرقها. وكما هو معروف كيميائياً، فإن أي حريق ملاصق لمادة نيترات الأمونيوم يؤدي إلى حرقها، إلا أن ما لم يتّم حِسبانه أن الحريق لم يكن قوياً لدرجة حرق النيترات، بل أدى تدريجياً إلى رفع حرارة العنبر 12، وإلى تخثر المواد الخطرة بداخله وإنتاجها لغاز نيترات الأوكسَيدس 2، والتي، بفعلِ دخول كميّة من الأوكسيجين إليها عند محاولة فتح أبواب العنبر لإخماد النار فيه، تسبّب إختلاط غازات NO2 وO2 إلى تفجير ما تبقى من مواد النيترات التي التهبت. وبالتالي، لا مصلحة للحزب بتحمّل مسؤوليّة مقتل مئتي شهيد وتدمير جزء كبير من العاصمة، وتهجير ستة آلاف عائلة، ولو أنه لم يكن يقصد إحداث ضرر بهذه الفظاعة.
أما “الفرضية الثانية” وهي التي نشرتها جريدة “هآرتس” بعدَ ساعة من وقوع تفجير المرفأ، وتطرّق إليها أيضاً الرئيس السابق للولايات المتحّدة الأميركية دونالد ترامب، وذكرها البارحة الوزير السابق نهاد المشنوق في تغريدةٍ سياسيّة رافقها بتصريح ناريّ لافت عن توصيف تفجير المرفأ بأنه اعتداء إسرائيلي! وما يجب التوقف عنده هو صدور تصريح المشنوق بعد ستة أشهر من بدء التحقيقات، فهل تصريحه يعبّر عن تحليل شخصي أو أنه يستند إلى معلومات؟
أما السؤال الأهم من كل ذلك، يُوّجَه إلى القاضي فادي صوان ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد، وهو: أينَ الرابطة السببية بين التأخر بالتحقيق الذي قام بهِ ضابط أمن الدولة وحصول التفجير، في ضوء قيام مدعي عام التمييز غسّان عويدات بختم تحقيقات الرائد ميلاد الندّاف وترك المستجوَبين أحراراً؟
ولكن حتى ولو تأخر الرائد في أمن الدولة ميلاد الندّاف لأشهر عدة قبل فتح تحقيق، فإن قيام مدعي عام التمييز بختمه دون إتخاذ أي إجراء قانوني بحق منظّميه، يزيل أي صفة جرمية عن إجراءاته وينفي أي خطر ناتج عن عدم الإسراع في التحقيقات. إن هذه النتيجة يعرفها كل تلميذ حقوق في سنته الثانية، وتُشير إليها كل الكتب القانونية والنظريات كما الفقهاء والإجتهادات في مسألة الرابطة السببية بينَ الفعلِ والضررّ الواقع لانعقاد المسؤولية الجزائية أكانت تقصيرية أم لا.
إلا أنه يتبيّن حتى الآن، بأن القاضي صوان لا يأبه لأي فرضية ولا لأي قاعدة قانونية، بل همّه الوحيد أن يأتي بضحايا يُحملّهم وزر جَريمة القتل الجماعية؟
كذلك، فالتغاضي عن ذكر أن إِشارة القاضي غسان عويدات بتلحيم الأبواب العائدة لعنبر الشؤم، هي التي أدّت فعلياً إلى حصول التفجير، فيما لو صحّت نظرية التلحيم، وأن من أنزل النيترات إلى مرفأ بيروت من دون القيام بإجراءات لتوضيبها وفق الأصول، هو قاضٍ أيضاً، ولكن لا يمكن ملاحقته لأنه من المحسوبين على قاضٍ رفيع كما يتم التداول بين العديد من القضاة والمحامين.
وبالتالي، وبما أنه لا يمكن للقاضي صوان ملاحقة القضاة المقصّرين فعلياً بفعل الحمايات التي يحظون بها، فالعمل جارٍ لتوريط قضاة آخرين لا “ضَهر” سياسي لهم، وهكذا نكون قد قدّمنا إلى الشعب اللبناني موظفين وضباطاً كبار وقضاة، ككبش محرقة، لتحميلهم المسؤولية ولفلفة الملف والإنتهاء منه، على أن يقوم فيما بعد المجلس العدلي بتبرئة من هو بريء ومحاكمة المجرم، هذا إن كان أصلاً بين الموقوفين.
ويتبين بأن كل الفرقاء السياسيين في لبنان على توافق بما يقوم به القاضي صوان، وذلك ليس بهدف الكشف عن الحقيقة، بل للإنتهاء من الملف الفضيحة. فكل جهة لديها الدافع لطمس الحقيقة، والقاضي صوان يريد الإنتهاء من الملف على عجل، لا سيما بعدَ كل الإنتقادات التي طالته من الناس ومن أهالي الضحايا والعموم والدعاوى التي أقيمت بوجهه، والتي كان من شأنها أن تطيح بما تبقى له من سنوات خدمة في العدلية. وإذا صحّت فرضية الوزير السابق أشرف ريفي، فإن “حزب الله” أيضاً يهمّه “لفلفة” الملف.
أما فيما يتعلّق بالإسرئيليين، وبما أنهم على مشارف التطبيع والمصالحة مع عدد كبير من الدول العربية، سوف تعرّضهم فضيحة بهذا الحجم للملاحقة بجرائم ضدّ الإنسانيّة أمام المحاكم الدولية، فضلاً عن تعكير العلاقات الإقتصادية والتجارية مع الخليج العربي. إلاّ أن تدمير مرفأ بيروت يبقى حاجة ملّحة لليهود، في ضوء توقيع اتفاقيات عدة لإستكمال إجراءات المعاهدات التجارية والإقتصادية لمشروع “طريق الحرير”، والتي حلّ فيها مرفأ حيفا حجرَ أساس مكان مرفأ بيروت. والغريب في كل ذلك، أن الحزب لا يريد اتهام إسرائيل وهذه الأخيرة تراجعت عن الإشارة إلى أسلحة مخزّنة في مرفأ بيروت!
أسئلة عدة تطرح في هذا الإطار، هل أن تصريحات المشنوق باتهام إسرائيل بتفجير مرفأ بيروت، حصلت بفعل الإعلان عن حقيقة لمساعدة للتحقيق؟ ولماذا لا يستدعي صوان الوزير السابق المشنوق ليكشف للشعب اللبناني من أين استقى معلوماته بأن كمية النيترات المتفجرة هي 1350 طناً؟ وهل للمحقّق الشجاعة كونه من آل صوان، للكشف عن بقايا صاروخ كما صرّح المشنوق، أم أن تصريحات الوزير السابق للداخلية أتت في إطار التنغيم السياسي، لهزّ العصا لـ “حزب الله”؟ أين التحقيق مع رئيس الحزب الإشتراكي وليد جنبلاط منذ اليوم الأول عن تصريحاته عن تعاون الحزب والنظام السوري في موضوع النيترات؟
في كل الاحوال يبدو ان هذا المحقق ما زال يسير في تحقيقاته وفق ما إنتهى إليه تقرير معدّ من قبل إحدى الاجهزة الامنية، و”مسرحية” أن صوان غاضب من الجهاز الذي أعدّ التقرير لم تعد تنطلي على أحد خصوصاً وأن كل الإجراءات التي يقوم بها “الصوّان” مطابقة حرفياً لاقتراحات الجهاز نفسه المشار إليها في تقريره الأمني.
سنكتفي بهذا القدر لنقول نيابةً عن أرواح من سقطوا بسبب إفراغ باخرةَ الموت التي أرسلها مجرمون “يَدرون ماذا يفعلون”، “إرحم الأموات وترأف بالموقوفين يا ريّس فادي، فليس هناك من قضية رأي عام أهم من الإنصاف والعدالة”.
المصدر: ليبانون ديبات