أيا تكن الغايات والأهداف الاستراتيجية للسياسة الفرنسية في المنطقة ولبنان، فإن الدفع الباريسي لحل الأزمة اللبنانية يكاد يكون محل إحاطة خاصة سياسية وشعبية لتجاوز هذه المرحلة الدقيقة، خاصة وأن الوضع على الصعد المالية والاقتصادية والمعيشية يكاد يخرج عن السيطرة مع تفاقم الأزمات وتراكمها، علما أن المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون من بيروت بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، أفشلتها القوى السياسية المحلية التي راهن ماكرون نفسه على حسن نياتها، ولم تحظ في الوقت نفسه بدعم أميركي خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب الذي مارس، وفق المتابعين، رقابة صارمة على تطبيق بنودها.
يظن كثيرون أنه لم يبق من المباردة الفرنسية إلا روحيتها، بعد أن دأب المعنيون بتقاسم الحصص الحكومية على تفريغها من مضمونها وتحريفها، تارة عبر المطالبة بالثلث المعطل وتارة أخرى من خلال التمسك بحقائب معينة لتكريس أعراف جرى العمل بها خلال حكومات “الوحدة الوطنية” التي أوصلت البلد إلى ما وصل اليه، بيد أن الواقع الراهن، وفق المتابعين، يشي بالايجابية الى حد ما، فالرئيس ماكرون، يعمل على تحصين مبادرته عربيا (حيث من المتوقع أن يزور الإمارات والسعودية الأسبوع المقبل فضلا عن تواصله المستمر مع مصر) وأميركيا (لا سيما بعد الاتصال الهاتفي الذي حصل بينه وبين الرئيس جو بايدن)، وتزخيمها من جديد لبنانيا سواء من خلال الاتصال الذي اجراه بالرئيس العماد ميشال عون قبل ايام، او من خلال استقباله امس الرئيس المكلف سعد الحريري في الاليزية حيث بحث الرجلان في الصعوبات اللبنانية الداخلية التي تعترض تشكيل الحكومة وفي السبل الممكنة لتذليلها ومساعي الحريري لترميم علاقات لبنان العربية وحشد الدعم له في مواجهة الازمات التي يواجهها، اضافة الى جهود فرنسا ورئيسها لتحضير الدعم الدولي للبنان فور تشكيل حكومة قادرة على القيام بالاصلاحات اللازمة لوقف الانهيار الاقتصادي واعادة اعمار ما تدمر في بيروت جراء انفجار المرفأ في آب الماضي.
لا يمكن الرهان كثيرا ان “حكومة المهمة” قد تبصر النور قريبا، رغم أن الأدارة الفرنسية عادت لتكثف جهودها واتصالاتها، لتبصر مبادرتها النور حيث يصل في الأيام المقبلة إلى بيروت مسؤول فرنسي لإجراء مباحثات مع الكتل النيابية المعنية. ومرد عدم التفاؤل أن الصراع لا يزال على أشده بين الرئيس عون والرئيس الحريري، على خلفية شكل الحكومة وعدد الوزراء، وكلا الطرفين لا يبدو انه في وارد التراجع خطوة إلى الوراء وتقديم التنازلات للآخر، رغم أن الحراك الفرنسي ينصب على تأليف حكومة من اختصاصيين من غير الحزبيين تراعي الدستور وتطبق الاصلاحات المطلوبة من لبنان والتي تعهد بها في مؤتمر سيدر، وتنجز التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وبالتالي فإن التركيز الفرنسي سوف ينصب على عمل الحكومة العتيدة في الفترة المقبلة على وجه التحديد.
يبدو أن مآل الأمور ينتظر إطلالة الرئيس الحريري في ذكرى 14 شباط التي ستكون مهمة وحاسمة في المضمون، لجهة تمسكه بدوره وبالصلاحيات التي أعطاه اياها الدستور ، وصولا لتأكيد أهمية دوره في تاليف حكومة مهمة انقاذية وفق المعايير الدستورية ومن يتعمد التعطيل بفرضه حصوله على الثلث الضامن او طرحه مقايضات، عطفا على ما أفضت إليه جولته العربية والفرنسية، خاصة وان الاجواء السعودية باتت أقل تشددا تجاه حكومة يشارك فيها اشخاص مقربون من حزب الله، لكن الأكيد ايضاً ان الرئيس المكلف يحظى بغطاء داخلي وبالأخص من الثنائي الشيعي المتمسك به لرئاسة الحكومة، فحزب الله، وفق مصادره، متمسك بالمبادرة الفرنسية الى أقصى الحدود وتحفظه على بعض بنودها أبلغه للرئيس ماكرون في قصر الصنوبر، وهذا التحفظ لا يشكل عقبة امام التأليف على الاطلاق، فنائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم اوضح قبل أيام “أن الاتصالات بين الفرنسيين وحزب الله لم تنقطع يوما”، وهذا يفسر، وفق المتابعين، إيجابية حزب الله تجاه التعاطي الفرنسي مع لبنان، وعدم ربطه العلاقة بباريس بأي مستجدات اقليمية- اميركية، في إشارة إلى الملف الايراني ، وكلام ماكرون عن أهمية إشراك الرياض في المفاوضات حول الاتفاق النووي، علما أن المصادر نفسها، لا تخفي أن حزب الله عالق بين تمسكه بالحريري لرئاسة الحكومة من جهة وبين الرئيس عون المتمسك بقناعاته من جهة أخرى، فضلا عن أن الحزب ليس في وارد الذهاب إلى فض التحالف معه كما يطالبه البعض لاسباب عديدة، لكنه في الوقت نفسه غير مقتنع على الإطلاق بتشبث احد بمطلب الثلث الضامن الذي لا داعي له.