حاولت المنظومة عدم الاعتراف بحجم الأزمة التي أوصلت إليها البلاد، لكنّها سلَّمَت لاحقاً بعمق الأزمة، تحت وطأة الضغط الشعبي. ومع ذلك، احتفظت لنفسها بهامش المناورة وعدم إجراء الإصلاحات الهيكلية الضرورية للشروع بالخروج من الأزمة. علماً أن المجتمع الدولي الذي استنجدت به المنظومة مراراً لمساعدتها، اشترط إجراء تلك الإصلاحات. بلا جدوى.
الحل الوحيد الذي استخلصته المنظومة من المؤتمرات الدولية، ووصايا صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، هو الخصخصة الشاملة، التي تبتغي بيع أصول الدولة بهدف سد أكبر قدر من الفجوات الاقتصادية والمالية، التي تنخر بنية النظام الاقتصادي والمالي.
هذه الخلاصة ليست سوى نظرة محاسبية للخصخصة، لا ترى سوى تعويض الخسائر رقمياً، وإن كانت النتيجة تنازلاً كاملاً عن أصول الدولة، من عقارات ومؤسسات وبنى تحتية وما إلى ذلك. وهو ما يتناقض تماماً مع الحاجة الأساسية للبنان، وهي خصخصة “تضمن الرفاهية المستدامة للسكان مع الحفاظ على ملكية الدولة لأصولها”، وفق ما يؤكده الصحافي والاقتصادي ألبير كوستانيان، الذي يشير في حديث لـ”المدن” إلى أن الخصخصة المطروحة راهناً “يمكن أن تعرّض للخطر فرص البلاد في استئناف النمو المستدام”.
النظرة المحاسبية لا تستدعي برأي كوستانيان “موقفاً عاماً ضد الخصخصة”، وإنما تستدعي نقل المشهد نحو خصخصة تقارب “تحسين الخدمة العامة”، لأن ما سيتم خصخصته هو “مؤسسات ومرافق عامة تقدّم خدمات للمواطنين. ولذلك يجب ان تضمن الخصخصة حقوق المواطنين، وأهمها خدمات أوفر وأفضل مما يتم تقديمه اليوم”.
وهذه المقاربة، كما يقول كوستانيان، هي الرسالة الأساسية للدراسة التي أعدَّها تحت عنوان “خصخصة الأصول اللبنانية العامة: لا يوجد حل معجزة للأزمة”. كما أن الرسالة الأخرى هي “ضمان تطبيق الشروط التي تسبق الخصخصة، كي لا تذهب الأصول إلى جماعة من الفاسدين المرتبطين بالسياسيين”. ولذلك، على الخصخصة أن تنطلق من “استراتيجية وطنية”.
علماً أن الانطلاق نحو الخصخصة من ناحية محاسبية فقط، يحمل تناقضاته بداخله. فما تهدف المنظومة إلى تحقيقه من الخصخصة هو “إجمالي إيرادات محتملة تتراوح بين 6 مليار دولار واقعياً و13 مليار دولار في حال ارتفاع سيناريو التوقعات”. وهي أرقام غير كافية لاخراج لبنان من الأزمة.
محو الأدلة
ما يقدّمه الخبراء وتؤكده التجربة، تعلمه المنظومة ومعها المؤسسات الدولية. لكن الحاجة إلى خصخصة شاملة بلا أهداف وطنية اجتماعية، ينبع من ضرورة إخفاء أدلة الجريمة التي اقترفتها المنظومة على مدى 30 عاماً. فالإصلاح يُبقي على الأصول وما تحويه من تاريخ للمنظومة، فيما بيعها يقطع مسار التاريخ ويحوّل الأصول إلى مؤسسات ذات هوية أخرى، لا علاقة لها بما سبق من دولة وفساد وفاسدين.
ولو كان الهدف إصلاحياً، لاتّعَظت المنظومة من اليونان، ذلك البلد الذي رفض الانزلاق إلى لعبة صندوق النقد والبنك الدولي، وسدّ الأفق أمام نهوضه، فلعِب على حافة الهاوية، مازجاً بين وجهات النظر المتعددة للخصخصة. وقد أثنى كوستانيان على التجربة اليونانية داعياً إلى اعتمادها في لبنان، أو إلى التنبّه لها وعدم السير بما رفضته التجربة.
أيضاً، إن تفاقم الأوضاع سوءاً، يصب في صالح المنظومة، لأن ذلك يضيّق احتمالات المناورة وهامش رفض الاملاءات الخارجية. وليس من قبيل المصادفة تأكيد مدير دائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه، أن لبنان وصل في بعض الأمور إلى حائط مسدود. فهذا التوصيف السلبي، يريح الصندوق والبنك، ويُجلِسهما منتظرين قدوم المنظومة لتقديم أصول الدولة على طبق من ذهب، بلا قيد أو شرط. فتكون الخصخصة الحل الأخير أمام المنظومة لمحو آثار سياساتها، من دون تكبّد عناء دفع الثمن وإجراء إصلاحات تؤدّي إلى صوغ اقتصادٍ منتج.