كتبت ليا القزي في “الأخبار”: التعامل بـ”المفرّق” مع العناوين الاقتصادية في لبنان لا يؤدّي سوى إلى المزيد من الفشل. فالبحث في الملفات يجب أن يتمّ ضمن سلّة مُتكاملة، ومن ضمنها يأتي سعر الصرف. الحديث عنه يتمّ بشكل عشوائي، كما لو أنّ الاختيار بين سعر صرف ثابت أو عائم أو مزدوج، عملية حسابية سهلة. في حين أنّ الموضوع يرتبط بالخطة الاقتصادية للدولة، وأي نظام تُريد أن تبني للمواطنين والسكّان. من جهته، أطلق مصرف لبنان معركته لإرساء نظام صرف يحمي مصالح «حكّام السوق».
انطلاق النقاش في لبنان حول سعر صرف الليرة المنوي اعتماده، بشكل مُنفصل عن بناء أساسات الاقتصاد الحقيقي، أشبه بتنصيب ملك على أرضٍ قاحلة. فسعر الصرف هو «جزء من السياستين الاقتصادية والنقدية للدولة»، يقول الوزير السابق، والنائب السابق لحاكم المصرف المركزي، ناصر السعيدي. ليست الرؤية الاقتصادية للدولة وحدها المُغيّبة عن هذا النقاش، بل مُستقبل الطبقات الشعبية، وخطة التنمية الداخلية، وتحسين مستوى معيشة السكان.
في 8 كانون الثاني، أعلن الحاكم رياض سلامة انتهاء عصر تثبيت سعر صرف الليرة، مُتحدّثاً عن «تعويم العملة»، لكنّه رهن ذلك بالاتفاق المستقبلي مع صندوق النقد الدولي. لم يحمل كلام حاكم المصرف المركزي أي جديد، بعدما سقط تثبيت سعر الصرف منذ صيف الـ 2019، وقبل أشهر من اندلاع انتفاضة تشرين الأول من العام نفسه، وبما أنّه يُكّرر دائماً إمكانية تكرار تجربة مصر التي حرّرت عملتها بعد اتفاقها مع صندوق النقد. كما أنّها لم تكن المرّة الأولى التي «يعترف» فيها مسؤول رسمي بأنّ واحداً من أُسس النظام السابق قد انهار. ففي أيار 2020، صرّح وزير المالية غازي وزني لوكالة «أ ف ب» بأنّ لبنان «مُستعد لتلبية طلب صندوق النقد الدولي بتعويم سعر صرف الليرة، لكن بعد تلقّيه الدعم الخارجي، على أن يُعتمد في المرحلة المُقبلة سعر صرف مرن». إلا أنّ تصريح سلامة يأتي ليجزم بأنّ لبنان يتّجه نحو سعر صرف عائم يُحدّده «العرض والطلب» في السوق، من دون أي تدخل للمصرف المركزي، وفي أنّه «يدفن» ما ورد في خطة الإصلاح المالي لحكومة الرئيس حسّان دياب، عن أن «الحكومة تعتزم الانتقال إلى سعر صرف مرن مضبوط سيبلغ 4297 ليرة مقابل الدولار في 2024».
يرى أحد الاقتصاديين أنّ كلام سلامة هو عبور من إنكار تداعيات الأزمة «إلى مرحلة الإقرار الذي يفرض أن يبدأ معه البحث بالخطوات الواجب اتخاذها لمواجهة الأزمة». وبتحديد سعر الصرف العائم، يكون الحاكم «قد رفع سقف التفاوض عبر تغليب خيار مُتطرّف، يحمي مصالح الفئات التي يُمثّلها، والتي تستفيد من كفّ يد الدولة نهائياً وترك السوق يُحدّد السعر، ما سيكون له انعكاسات قاسية على الجزء الأكبر من الفئات الاجتماعية». المعضلة الأساسية في هذه الحالة أنّ سعر الصرف «ليس طرحاً تقنياً بحتاً. كلّ نظام يتبنّى سعر الصرف الذي يخدم أهدافه، وبالتالي لا يُمكن فصله عن الأهداف السياسية ــــ الاجتماعية للدولة».
ما هو هدف الدولة اللبنانية؟ إذا كان «تعزيز الصادرات للحصول على الدولارات، يكون أفضل نظام صرف هو العائم، لأنّه كلّما انخفض السعر ارتفعت كمية الصادرات». أما في حال كان الهدف الحفاظ على قدرات الناس الاستهلاكية فـ«يُعتمد سعر صرف ثابت». فيما يتم اللجوء إلى «سعر صرف عائم مضبوط، إذا كان الهدف التوفيق بين زيادة الصادرات وتعزيز التنمية الداخلية». يبقى القاسم المشترك بين مختلف أشكال سعر الصرف، أنّه قرار «تتخذه الحكومة وليس المصرف المركزي».
قبل تثبيت سعر الصرف عام 1997، كان لبنان يعتمد سعر صرف مرن «يتبدّل حسب العرض والطلب، وكان أفضل الأنظمة لبلد عرضة دائماً لعوامل سياسية وأمنية واقتصادية ويعيش في حالة عدم يقين»، بحسب ناصر السعيدي. انطلاقاً من هنا، يرى الخبير النقدي أنّ «الأفضل للبنان هو سعر صرف مرن، بدون ضوابط»، إلا أنّ هذا الخيار مشروطٌ «أولاً بإصلاح السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية». يشرح السعيدي أنّه «يجب إعادة هيكلة الدين العام وديون مصرف لبنان، وتخفيض حجمها، وتخفيض العجز السنوي في الموازنة العامة بطريقة مستدامة، أي تأمين إيرادات إضافية للدولة وعصر النفقات. أما بالنسبة إلى مصرف لبنان، فيجب أن يتوقف عن تمويل الدولة (علماً بأنّه في دراسة أعدّها الخبير الاقتصادي توفيق كسبار، تبيّن أن الدولة هي من أقرضت مصرف لبنان 17.5 مليار دولار بين 2009 و2019، مقابل إقراض «المركزي» الدولة 13 مليار دولار ــــ سُدّدت جميعها، ولكن بالليرة اللبنانية ــــ، لتكون النتيجة إقراضاً صافياً من الحكومة للمصرف يُساوي 4.5 مليارات دولار) ويُنهي عمليات الدعم على أنواعها، بما فيها القروض المُيسّرة، فتقتصر وظيفة مصرف لبنان على الاستقرار النقدي والقطاع المصرفي».
سعر الصرف العائم يعني تكتيف الدولة يديها وترك اللعبة بين أيدي الأقوى في السوق، وللمفارقة أنّ جزءاً أساسياً من أزمات لبنان ناجم عن غياب «الدولة» وعدم ممارستها لواجباتها، وليس العكس، في مقابل إطلاق يد الأوليغارشية المحلية لتنهب الثروة العامة وتُراكم أرباحاً لها على حساب الأجيال الحالية والمقبلة. بالنسبة إلى الوزير السابق منصور بطيش، اعتماد سعر صرف ثابت «كان الخطأ الكبير. فسعر الصرف هو قوّة العملة بالنسبة إلى بقية العملات». قانون النقد والتسليف يذكر «استقرار النقد، والاستقرار يتطلب مرونة وليس تثبيتاً جامداً لا يواكب المعطيات النقدية والاقتصادية والاجتماعية». سنة 1997، «ارتُكبت أكبر جريمة بحقّ الوطن بتثبيت سعر الصرف عبر استخدام النموذج السعودي، من دون الأخذ بعين الاعتبار بأنّ الرياض قادرة على تثبيت الريال وربطه بالدولار بسبب وجود إيرادات ناتجة من تجارة النفط، ولدى السعودية فائض يُمكنها من تحمّل كلفة التثبيت». أما في لبنان، فقد أتى «السعر الثابت على حساب استقرار سعر الصرف، وعلى حساب مالية الدولة التي عاشت على الدين خدمة للمُقرضين وكبار المودعين، ثمّ على حساب السياسة النقدية وقد ظهر ذلك في الفجوة داخل حسابات مصرف لبنان». لذلك، يعتبر أنّ الحلّ الأمثل هو «اعتماد سعر صرف مرن ضمن ضوابط». لا يُمانع السعيدي هذا الخيار، «شرط أن يكون الهامش واسعاً، يعني 10% بالحدّ الأدنى و10% بالحدّ الأقصى، فلا يتدخل المصرف المركزي إلا في حال حصول أزمة». ولكن ما بعد اعتماد سعر الصرف، يأتي توفير الأدوات اللازمة للحفاظ عليه، وإلا ستبقى أنظمة السعر المُتعدّدة تتحكّم بالسوق. مثلاً في حال اعتماد سعر صرف مرن ضمن ضوابط، يجب تأمين احتياطات بالعملة الأجنبية لدى «المركزي»، تُخوّله التدخل في حال تخطّى سعر الصرف الهوامش المُحدّدة له. يقول بطيش إنّ «توحيد الأسعار المتعددة مسألة حيوية، لأنّها تُشكّل ضرراً كبيراً على الاقتصاد والمجتمع. لذلك من الواجب تحفيز الإنتاج وقطاع التكنولوجيا، ووضع آلية لنظام ضرائبي وقانون المنافسة، والمزاوجة بين النفقات والإيرادات… حين يتم وضع كل هذه الأمور بخطة متكاملة، نُوفّر الثقة للناس ويُصبح تأمين التمويل أسهل».
المشكلة في «تحرير» سعر الصرف، هي في ارتداداته السلبية على الناس. كيف يتم حمايتهم؟ يُجيب السعيدي بأنّه «عن طريق اقتصاد فعّال ومُنتج، لا ريعي. عشنا في السنوات السابقة في ظل اقتصاد ريعي، موّل الإنفاق الجاري والاستهلاك من دون الاستثمار في البنى التحتية والخدمات والقطاعات المُنتجة». ويُضيف بطيش بأنّه «قبل تحرير سعر الصرف يجب وضع نظام حماية اجتماعية».
في بداية الـ 2020، كان المسؤولون النقديون والماليون في البلد يُقرّون في مجالسهم باستحالة الخروج من الأزمة قبل 5 سنوات على الأقل، لذلك يجب إيجاد علاجات «مؤقتة» إلى حين بناء «أساسات الاقتصاد الحقيقي». سعر الصرف شكّل أحد المواضيع التي وُضعت على الطاولة، من خلفية أنّه «مرتبط بقوة الاقتصاد، ولتكون الليرة قوية يجب بناء اقتصاد فعّال». 16 شهراً مرّت على انفجار الفقاعة، ولا تزال المواضيع المُهمة تُبحث على طريقة اختيار أرقام شبكة «لوتو» عشوائياً.
أنواع أسعار الصرف
سعر الصرف هو القيمة لعملة بلد مقابل عملة دولة أخرى، مثلاً، سعر صرف اليورو مقابل الدولار. يلعب أهمية كبرى، فهو يُساعد على تحديد قوة النظام الاقتصادي لدولة ما، وفي عمليات الاستيراد والتصدير. يوجد أنواع مُتعدّدة لأسعار الصرف:
ــــ العائم الحر: يرتفع وينخفض بحسب المتغيرات في السوق.
ــــ العائم المُدار: تتدخل الدولة، عبر مصرفها المركزي، لتوجيه سعر الصرف حين يتخطّى الحدّ الأدنى أو الأقصى الذي تمّ تحديده.
ــــ الثابت الجامد: ربط دولة عملتها بعملة أجنبية (غالباً ما تكون الدولار) بسعر ثابت لا يتبدّل.
ــــ الثابت المُتحرك: تُقرّر الدولة تثبيت سعر صرف عملتها تجاه عملة أجنبية، ولكن هذا السعر الثابت يتبدّل تبعاً للتطورات الاقتصادية والاجتماعية داخلها.
ــــ سعر الصرف المُزدوج: تعتمد الدولة سعراً خاصاً بالمعاملات الخارجية وسعراً خاصاً بالمعاملات داخل البلد.