آذار عام 2019، وخلال تمثيله رئيس الجمهورية ميشال عون في إفتتاح محول كهربائي في طرابلس، خاطب الرئيس سعد الحريري الوزير جبران باسيل الذي كان حاضرا بالقول: ″مين كان بيصدق يا جبران أني أنا وياك اليوم بطرابلس.. وعم مثل فخامة الرئيس.. في ناس لح تقول كيف رئيس الحكومة بيمثل رئيس الجمهورية، لأن رئيس الحكومة بروح على كل الأماكن وبيمثل لبنان، فأنا الي الشرف أنو مثل فخامة الرئيس.. وما حدا يزايد على سعد رفيق الحريري″.
في ذاك الوقت، كان الحريري يتجاوز بعلاقته مع عون وباسيل كل حلفائه، وصولا الى حدود الاستقواء عليهم وإستبعادهم عن كل ما يتعلق بمكاسب السلطة التي كان يتقاسمها الحليفان، فالتسوية التي أبرمها الحريري كانت قائمة على أن يصل عون الى قصر بعبدا، وعلى أن يستوطن الحريري في السراي الكبير طيلة فترة العهد، وهو طموح كان يسعى إليه الحريري إنطلاقا من القاعدة التي يحبها: “أنا أو لا أحد” في رئاسة الحكومة، لذلك لم يتوان عن مخالفة توجهات طائفته ورؤساء الحكومات السابقين، وإهمال حلفائه، وإثارة غضب أميركا وأوروبا، وكذلك دول الخليج وفي مقدمتها السعودية والامارات اللتين دخلتا في شبه قطيعة مع لبنان ما يزال يدفع ثمنها الى الآن.
مع إستقالة الحريري تحت ضغط ثورة 17 تشرين الأول 2019، “إنفخت الدف” وتفرق العشاق بسقوط التسوية التي أثبتت الوقائع أنها كانت عبارة عن “حفلة تكاذب” إستمرت أربع سنوات بفضل صفقات رئاسية وحكومية وتقاسم تعيينات وبواخر الكهرباء، ومشاريع نفطية وإنمائية مختلفة.
تماهي الحريري في علاقته مع باسيل وإشراكه في كل شاردة وواردة تحت رعاية رئيس الجمهورية الذي كان في قمة الرضى على هذا التعاون، دفع بباسيل الذي “كبرت الخسة في رأسه” الى تجاوز الدستور والأعراف عندما إنتهت سنوات العسل مع الحريري، وذلك بطرحه معادلة إما أن نكون سويا (باسيل والحريري) في الحكومة وإما أن نكون سويا خارجها، ما شكل إعتداءً برتقاليا جديدا على موقع رئيس الحكومة الذي لا يمكن أن يرتبط بوزير، خصوصا أن رئاسة الحكومة هي موقع دستوري شأنها شأن الرئاستين الأولى والثانية، في حين أن الوزير هو موظف يعيّن بمرسوم يوقعه رئيسا الجمهورية والحكومة معا.
إرتفع منسوب الحقد بين الحريري وباسيل، فبدأ الثاني بالعمل على قطع طريق السراي الكبير على الأول، وبدأ الأول بضرب كل إمكانية لوصول الثاني الى قصر بعبدا، وفي الوقت الذي جاءت فيه ثورة 17 تشرين الأول لتدعم توجهات الحريري في إضعاف باسيل وإتهامه بالفساد وكيل الشتائم العلنية له، قبل أن تشكل العقوبات الأميركية ضربة من العيار الثقيل لطموحاته. كان الحريري أكثر قدرة على حماية نفسه، فأحرق محمد الصفدي وسمير الخطيب عندما طُرح إسميهما لرئاسة الحكومة، وحارب حسان دياب بكل الوسائل، وأفشل المبادرة الفرنسية التي أدت الى إعتذار الدكتور مصطفى أديب، وقدم نفسه كمرشح طبيعي لرئاسة الحكومة وكان له ما أراد نكاية بعون وباسيل الذي لم يخف غضبه في مجالسه الخاصة من إعادة تكليف الحريري، ونقل عنه قوله أنه “إذا كان التكليف بيد أكثرية نيابية، فإن التأليف رهن بتوقيع رئيس الجمهورية”.
مع صدور مرسوم التكليف، بدأت الحرب العونية ـ الحريرية، التي تجاوزت المسودات الحكومية التي قدمها الرئيس المكلف الى محاولة تيئيسه ودفعه نحو الاعتذار، وقد جاء كلام باسيل في مؤتمره الصحافي حول “عدم إئتمان الحريري على الاصلاح”، ومن بعده التسريب المقصود لفيديو رئيس الجمهورية الذي يصف الحريري فيه بـ”الكذاب”، ليصب في هذا الاتجاه، وليعلن عن السر الذي إحتفظ به رئيس الجمهورية ثلاثة أشهر وهو أن “لا تأليف طالما الحريري رئيسا مكلفا”.
يبدو واضحا اليوم، أن الحريري الذي يترك “الشقى على من بقى” في لبنان ويقوم بجولات خارجية بين باريس وإسطنبول والامارات وربما لاحقا الى مصر بحجة إجراء مزيد من الإتصالات تُعطى في الاعلام أكبر من حجمها بكثير، يسعى الى “رد الصاع صاعين” لباسيل وعون، من خلال إرساء معادلة جديدة هي: “إما أن يكون عون في الرئاسة الأولى والحريري في الرئاسة الثالثة وإما أن يكون وإياه خارج السلطة والحكم”.
معادلة الحريري تقضي بأن يتمسك بتكليفه وأن يسوح في بلاد الله الواسعة، ما يؤدي الى تطويق العهد ووضعه أمام أمر واقع، فإما أن يتم التوافق بين الرئيسين على تشكيل حكومة لا سيما مع إنتهاء ولاية ترامب الذي يشكل قلقا كبيرا لهما، وإما أن يستمر الخلاف وتتحول الحكومة الى أزمة حكم، تترافق مع تشكيل “جبهة معارضة وطنية” تطالب بإسقاط ميشال عون.
المصدر: سفير الشمال