باكراً، أخذت القوى السياسيّة “إجازتها”، وغادر رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري في رحلةٍ “عائليّة”، تاركاً استكمال “صداع” الملفّ الحكوميّ إلى ما بعد رأس السنة، على وقْع “المعركة المفتوحة” مع رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل.
إلا أنّ “الإجازة” لم ترحِّل، على ما يبدو، الخلافات السياسيّة معها، إذ حملت الساعات الماضية “سجالاً متجدّداً” بين الحريري، ومن خلفه “تيار المستقبل”، من جهة، و”الحزب التقدمي الاشتراكي” ورئيسه النائب السابق وليد جنبلاط، من جهةٍ ثانية، على خلفيّة تصريحاتٍ للأخير حمّل فيها الحريري جزءاً من مسؤولية “المماطلة الحكوميّة”.
انتقد جنبلاط الحريري لمحاولته “فرض أسماء” على عون، ولبحثه عن “اختصاصيّين” بما لا ينسجم مع الواقع اللبنانيّ “المسيَّس”، فثارت ثائرة “المستقبليّين” الذين استهجنوا هجوم من ظنّوه “حليفاً”، قبل أن تكبُر “كرة الثلج” على وقع “المعركة الافتراضية” التي نشبت بين “المستقبليّ” مصطفى علوش، و”الاشتراكي” بلال عبد الله، وتجاوزت في مكانٍ ما “الحدود” المرسومة.
“حساسيّة مفرطة”!
صحيحٌ أنّها ليست “المعركة الكلاميّة” الأولى بين “المستقبل” و”الاشتراكي”، الذي كُلِّف بـ “مباركة” جنبلاط، ولكن بعد “تجاوز” انتقاداتٍ عالية السقف وجّهها له في حديثٍ تلفزيونيّ، جزم خلاله بأنّ تكتّله النيابيّ لن يسمّيه لتأليف الحكومة، قبل أن يتراجع ويمنحه أصواته على وقع اتصالٍ تلقّاه من رئيس الحكومة المكلَّف، قيل إنّه حصل خلاله على “الضمانات” التي طلبها.
إلا أنّ تجدُّد الخلاف هذه المرّة، وفي وقت الإجازة الضائع، طرح الكثير من علامات الاستفهام، عن “خلفيّاته” الحقيقيّة، في وقتٍ يحصره “الاشتراكيّون” بـ “الحساسيّة المفرطة” التي باتت تطبع أداء الحريري وبعض مستشاريه والمقرَّبين منه، إذ يكفي أن يقول جنبلاط كلاماً عامّاً، عبارة عن قراءةٍ سياسيّةٍ لا أكثر ولا أقلّ، حتى يستنفروا ويحلّلوا، ويذهبوا إلى الجزم باستنتاجاتٍ وتأويلاتٍ لا تعكس حقيقة الموقف أصلاً.
ويلفت المقرّبون من جنبلاط إلى أنّ ما قاله الرجل، في حديثه لصحيفة “الأنباء” التابعة لحزبه، لم يكن يستأهل كلّ هذه الضجّة “المفتعلة” في أحد جوانبها، علماً أنّ “البيك” لم يحمّل الحريري سوى “جزء” من المسؤولية، التي ينبغي على المحسوبين عليه الإقرار بها، طالما أنّه رئيس الحكومة المكلَّف، ومن تقع على عاتقه مهمّة التأليف بالدرجة الأولى، ولو أنّه يصطدم بالكثير من المعوّقات والضغوط، التي تحدّث عنها جنبلاط كذلك صراحةً في موقفه الأخير.
ماذا يريد جنبلاط؟
لكنّ هذه “المبدئيّة”، الأقرب إلى “المثاليّة” في الطرح، لا تبدو “مقنعة” لكثيرين من العارفين والمراقبين، استناداً إلى ما هو متعارَفٌ عليه من “أدبيّات” رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”، الذي لا يتحدّث لمجرّد الكلام أو التحليل، بل يوجّه دائماً “الرسائل” التي يسعى لـ “توظيفها” في الاستحقاقات السياسيّة، بما يحقّق أهدافه، ويتناغم مع مصلحته بشكلٍ أو بآخر.
ومن هذه “الروحية”، ينطلق “المستقبليّون” لإعطاء كلام جنبلاط أبعاداً أبعد ما تكون عن السياق “المُعلَن” من كلامه، الذي “يتناقض” برأيهم مع الكثير من مواقف “البيك” السابقة، خصوصاً لجهة رفضه منطق “الاختصاصيّين” بعدما كان “المُنظِّر” له في مراحل عدّة، علماً أنّ الحريري لم يأتِ بهذه الصفة من “بيت أبيه”، كما يُقال، بل من المبادرة الفرنسية التي لا يفوّت جنبلاط فرصة من دون أن يغتنمها للدعوة إلى التمسّك بها.
ويعتقد المقرّبون من رئيس تيار “المستقبل” أنّ جنبلاط أراد التعبير عن “امتعاضه” من التسريبات عن التشكيلة الحكوميّة التي قدّمها الحريري لعون، من دون أن يظهر وكأنّه “المعرقِل” طالما أنّ هناك من يتصدّى عمليّاً لهذا الدور. ويرى البعض في هذا السياق، أنّ “بيت القصيد” في الخلاف المتجدّد، يكمن في أنّ جنبلاط “غاضبٌ” من منحه حقيبة الخارجيّة، بعنوان أنّها سياديّة، علماً أنّه سبق له أن أعلن رفضه لها، بعدما فقدت هيبتها، وباتت “ملغومة” أكثر من أيّ شيءٍ آخر.
يبدو “آخر سجالات العام” نسخةً مكرَّرة بل غير منقّحة، في بعض جوانبها، عن سجالاتٍ سابقة، يرتفع فيها السقف بين المحسوبين على الحريري وجنبلاط، إلى أعلى المستويات، ثمّ ما يلبث أن ينخفض تدريجيّاً، وكأنّه لم يكُن. هو “المصير المحتّم” للسجال، وفق المعنيّين به، ممّن يعتقدون أنّه يملأ “الوقت الضائع” ليس إلا، وسيتمّ تجاوزه في أقرب فرصةٍ سانحة…