الشعب يريد الحقيقة مهما كانت مرجعية التحقيق، ويريد أن يذهب التحقيق إلى أساس الكارثة لا إلى ضفافها. ماذا نقول اليوم لأهالي أكثر من 200 ضحية ولأكثر من 6500 جريح وجريحة ولأكثر من 300 ألف مشرد، بالإضافة إلى نصف الشعب اللبناني الذي صار فقيرا؟ كيف نعوض على بلد فجر مرفأه؟ كيف ننظر إلى عاصمة نصفها مدمر، وأجمل أحيائها وبيوتها التراثية ومكتباتها وبناياتها وجامعاتها ومدارسها وكنائسها ومعابدها وجوامعها ومؤسساتها السياحية مهدم؟ من أين نأتي بـ 15 مليار دولار لإعادة الترميم والبناء والتعويض؟ وكيف ننهض بالإقتصاد والتجارة المنهارين؟ مع كل ذلك ليس عندنا حكومة من دون أي مبرر سوى النيات الخبيثة التي تتسلل وتهدم، مثلما فعلت تلك الحية القديمة”.
وشدد على أنه “بالرغم من النكسات التي طرأت على صيغة العيش معا بسبب تعدد الولاءات، وتسرب العقائد الغريبة عن مجتمعنا المسيحي/الإسلامي، وتكاثر التدخلات الخارجية، لا بد من إعادة تجديد الإيمان بالشراكة في إطار لامركزي وحيادي ومدني. لا بد من إعادة تحديد معنى التعددية الحضارية وإنتاج دولة ينسجم بنيانها مع تطور المجتمع اللبناني. لا قيمة للتعددية خارج الشراكة والدستور والدولة واحترام الآخر والاعتراف بخصوصياته. حري بنا، وهذا من مصلحتنا جميعا، أن نعيد الصيغة اللبنانية إلى ثنائيتها التاريخية، أي إلى الشراكة بين المسيحيين والمسلمين لنقيها صراعات المذاهب والطوائف التي ساهمت في تشويه صورتها. لبنان بتأسيسه وطن للسلام لا للصراعات، ودولة واحدة للمواطنين لا دويلات للطوائف والمذاهب والأحزاب والنافذين”.
ولفت الراعي الى أن اللبنانيين يريدون أن يعيشوا في لبنان الكبير بالمساواة مع بعضهم البعض، لا على حساب بعضهم البعض، وضد بعضهم البعض. المساواة في الإنماء والضرائب والرسوم والجباية، المساواة في المشاركة في القرار الوطني، لا في التفرد به خارج الشرعية وفرضه على الآخرين.
وقال: “تعلمون أن مسؤولياتنا التاريخية والوطنية دفعتنا إلى القيام بمبادرة تهدف إلى حث المسؤولين على تأليف حكومة سريعا، منعا للإنهيار الشامل. ومنذ اللحظة الأولى كنا ندرك الصعوبات الداخلية والخارجية، ووجود أخرى خفية ومفتعلة تعيق التشكيل. لكننا أخذنا بالاعتبار مصلحة المواطنين ومآسيهم. كنا نراهن على الضمير. وكان المبدأ ألا يتحكم أي طرف بمفاصل الحكومة خارج المساواة بين الطوائف. الشعب، ونحن معه، يريد حكومة اختصاص محصنة بوجه التسييس تتولى ورشة النهوض والإصلاح، وتعيد لبنان إلى منظومة الأمم. كنا في معرض إنتظار حكومة تصلح الدولة، لا في معرض تأليف حكومة يسيطر البعض من خلالها على مفاصل البلاد. كنا في معرض إنقاذ الشعب لا في معرض إعلان سقوط الدولة. لقد أسفنا كل الأسف لسقوط الوعود التي أعطيت لنا. فعاد تأليف الحكومة إلى نقطة الصفر. أيها المسؤولون، فكوا أسر لبنان من ملفات المنطقة وصراعاتها، ومن حساباتكم ومصالحكم المستقبلية الخاصة”.
مع كل ما جرى نحن مستمرون في مساعينا بكل ما أوتينا من قوة وإيمان ومن ثقة الشعب وشبابه. من كان مؤتمنأ على التاريخ لا يتراجع أمام صعاب الحاضر. فمساعينا لا تهدف إلى تأليف حكومة وحسب، بل إلى إنقاذ لبنان، وسننقذه.
9. “الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما” (أش 9: 1) في قلب أزماتنا الكثيفة يشرق نور المسيح ليبددها ويزع فينا الرجاء، إن نشيد الملائكة فوق مذود بيت لحم دشن زمنا جديدا للبشرية جمعاء، هو زمن السلام والرجاء: السلام في عهدتنا لبنائه، والرجاء في قلوبنا للصمود به.
“المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر”
ولد المسيح، هللويا!”.
الاباتي الهاشم
والقى الاباتي نعمة الله الهاشم كلمة معايدة باسم الرؤساء العامين والعامات، فقال: “باسم اخواتي الرئيسات العامات والاقليميات واخوتي الرؤساء العامين والاقليميين للرهبانيات وجمعيات الحياة المكرسة، وباسم الراهبات والرهبان والمكرسات والمكرسين، أتقدم منكم يا صاحب الغبطة والنيافة، بصفتكم رئيس مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان، بأصدق مشاعر البنوة بمناسبة عيد الميلاد المجيد، سائلا الاله الكلمة المتجسد ان يرافق خطواتكم لمتابعة المسيرة مع اصحاب الغبطة والسيادة في قيادة كنيسة لبنان في الشهادة لايمانها والتزامها العمادي في هذا الزمن الصعب”.
اضاف: “نستعجل، مع غبطتكم، استقبال الطفل الالهي، وكلنا رجاء ان يكون ميلاده خاتمة لسنة من الضياع والمآسي والتحديات والتجارب والضربات، خاتمة لسنة حبلى بالقلق والمخاوف والتهويل، اكتشفت فيها الانسانية ضعفها ومحدوديتها وخطيئتها وتشرذمها، خاتمة لسنة قاسية على العالم بما حملته من ازمات سياسية واقتصادية ومن وباء ما يزال ينشر الذعر والموت، لسنة اظهرت قساوتها بشكل خاص على لبنان واللبنانيين”.
وتابع: “فبدل ان يحتفل اللبنانيون واللبنانيات بالذكرى المئوية الاولى لاعلان دولة لبنان الكبير بالفرح والمحبة والمشاركة والشكر لله، أمضوا هذه السنة بمواجهة الازمات، واحدة تلو الاخرى، فكنا لا نكاد نبدأ بتجميع الانفاس واستجماع القوى لمواجهة ازمة ما، حتى نبتلى بأزمة اخرى اقسى من سابقتها، وهكذا دواليك، من ازمة فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها، الى الازمة السياسية الحادة، الى الازمة الاقتصادية والمالية وتداعياتها، الى الازمة التربوية والصحية، الى الازمة المعيشية”.
وأردف: “وفي خضم كل ذلك ظهرت جائحة كورونا مع ما حملته من ذعر وضياع وموت، وكأن كل ذلك لا يكفي، فحلت الكارثة بجريمة انفجار مرفأ بيروت ومآسيه الابوكالبتيكية. مأساة تخيلنا مخطئين انه لا يمكن ان نصاب بأقسى، لكن الادهى منها كانت ردة فعل وطريقة تعاطي اكثر المسؤولين في الداخل والخارج معها. فتراوح الموقف الداخلي لدى اكثرهم من اللامبالاة مرورا بالتعاطف الزائف وصولا الى التقاعس عن القيام بالواجب او حتى التواطؤ والتآمر لعدم كشف الحقيقة وعدم تجييش الامكانيات للتعويض على اهالي الشهداء وتطبيب المصابين واعادة الاعمار والحياة الى عاصمة لبنان وقلبه. هذا الموقف لا يوازيه الا عدم اكتراث الدول الشقيقة والصديقة وامتناع بعضها عن المساعدة واصرار بعضها الاخر على تضييق الخناق لاستكمال الانهيار، موقف لم يكسره سوى بعض المبادرات المتعاطفة كالمبادرة الفرنسية المترنحة او الاهتمام والعناية التي ابداهما قداسة البابا فرنسيس من خلال ارسال موفده الخاص نيافة الكاردينال بيترو بارولين او من خلال النداءات المتكررة الى المسؤولين العالميين والمحليين لمعالجة الاوضاع”.
وقال: “في هذه السنة فقد الكثيرون احباء لهم، إن بسبب المرض او بسبب الانفجار، آخرون شردوا وفقدوا بيوتهم، كثيرون فقدوا مدخراتهم وتعويضاتهم وجنى حياتهم، آخرون هاجروا او يحاولون الهجرة لدى اقرب سانحة، كثيرون يئسوا وفقدوا الامل بمستقبل كريم لهم ولابنائهم. ودولة لبنان الكبير في قمة معاناتها، اركانها تهتز ، ينخر الفساد اكثر مفاصل القطاع العام فيها، وتتلقى ركائز القطاع الخاص الذي شكل قوتها وازدهارها ضربة تلو ضربة، من القطاع التربوي الى الاستشفائي الى الزراعي والصناعي والتجاري والسياحي، وصولا الى القطاع المصرفي، وكأن هناك ارادة وتصميما على تهديم كل جميل ومنتج وعامل ازدهار في لبنان”.
اضاف: “نستعجل معكم استقبال طفل المغارة وأمه مريم والقديس يوسف خطيبها، لان قوة الرجاء المنبعثة من هشاشة المذود انتصرت على الشر وادواته، ولان هذا الرجاء اعطانا مقدرة الصمود والثبات هذه السنة بالرغم من كل شيء”.
وتابع: “عنوانان يختصران رسالة الحياة المكرسة وشهادة الراهبات والرهبان لهذا العام تحت نظر العناية الالهية التضامن والصمود، مع ما يتطلبانه من جهاد يومي مقدس ومن تضحيات ومن ثبات على محبة الله والعمل باسم الكنيسة ووفق توجيهات قداسة البابا فرنسيس وتوجيهاتكم:
– تضامن مع جميع ابناء شعبنا، مع الشباب الثائر بصدق على الوضع الحالي والمصمم على تغييره مع اصحاب النوايا الطيبة، مع جميع المهمشين، مع الفقراء والمعوزين واليتامى والمسجونين، مع المرضى والمتألمين والمجروحين، ومع جميع المظلومين، التضامن الصادق كفيل وحده بتغيير الواقع الحالي الاليم، وباعطاء الامل بالتغلب على كل الصعاب، وهذا ما ظهر جليا بعد انفجار مرفأ بيروت.
– صمود في مؤسساتنا الكنسية مع شركائنا في قطاعات التربية والتعليم والاستشفاء وفي قطاعات الانماء على انواعها، صمود مع شركائنا القدامى والجدد في العمل الاجتماعي والخيري، صمود للحفاظ على لبنان كما اراده وعمل على تحقيقه اجدادنا واسلافكم البطاركة العظام”.
وختم: “أمامكم نتعهد لشعبنا بأن نكمل معه مسيرة التضامن والصمود، متكلين على طفل المغارة وعلى العناية الالهية، كي نجعل من السنة القادمة سنة خير وبركة وخلاص. معكم نتضامن يا صاحب الغبطة في مواقفكم ومبادرتكم الخيرة لحياد لبنان وخلاصه، ومعكم وتحت لوائكم نصمد للحفاظ على رسالة الاخوة الانسانية التي يتميز بها وطننا. نرفع صلواتنا الى طفل المغارة ان يحفظكم ويعطي لبنان والكنيسة سنة خير وبركة، بشفاعة والدته العذراء مريم سيدة لبنان وقديسي لبنان وشهدائه”.