مرفأ بيروت إلى الواجهة من جديد، وهذه المرّة من بوابة “الفساد بالتراضي”، حيث وقّع عدد من وزراء حكومة تصريف الأعمال على اتفاق (غير قابل للتنفيذ) بقيمة 3.6 مليون دولار، في ظل الحديث عن رفع الدعم عن الطحين والدواء وغيره من المواد الأساسية بسبب الإفلاس.
فماذا في التفاصيل؟
قبل أقلّ من شهر تحدّثت وسائل إعلام محلية عن صفقة في المرفأ بقيمة 2 مليون دولار، للتخلص من مستوعبات مصنفّة بأنّها “خطرة”. وهي كلمة باتت تكفي لتقليل التمحيص والتدقيق بعد تفجير واجهة بيروت الشرقية في 4 آب الماضي.
تأهّبت إدارة المرفأ والوزارات المعنية “لتخليص لبنان من خطر داهم” شبيه بخطر نيترات الأمونيوم التي تسببت بكارثة 4 آب. وفي التفاصيل التي حصل عليها “أساس” موثّقة بالمستندات أنّه:
– بتاريخ 09/10/2020 وبضغط من رئاسة مجلس الوزراء وبموافقة استثنائية من وزراء المال والأشغال العامة والنقل والدفاع، وقّعت إدارة مرفأ بيروت عقداً بالتراضي بقيمة 3.6 مليون دولار أميركي مع شركة combi lift التي يمثل مصالحها السيد إيلي أسود، رئيس جمعية الصداقة الألمانية – اللبنانية (يشتهر بعلاقاته السياسية مع رئيس التيار الوطني الحرّ). وينصّ العقد على شحن ومعالجة 49 مستوعباً و3 مستوعبات إضافية، من باحة محطة المستوعبات في مرفأ بيروت، تحتوي مواداً صُنفت بأنّها “خطرة- hazardous material”، وهي عبارة عن أسيتون و تينر و بويا وفلّين، ومواداً غيرها قابلة للاشتعال… غير معروف صاحبها من قبل إدارة المرفأ. لكنّها تشكّل خطراً كبيراً وداهماً على السلامة العامة كما هو موضح في جلسات مجلس إدارة مرفأ بيروت (مرفق صور).
– وينصّ العقد، كما توضح المستندات، على دفع مبلغ 3.6 مليون دولار يسدّد منها مرفأ بيروت 2 مليون دولار، وتتعهّد الشركة بالسعي مع الجهات الواهبة في الاتحاد الأوروبي أو الدولة الألمانية لتغطية الأموال المتبقية، وهي مليون و600 ألف دولار، عبر هبة قد تمنحها تلك الجهات كمساعدات إلى لبنان.
– الجديد في الموضوع، كما يكشف مصدر معني لـ”أساس”، أنّ ما اعتبرته الدولة اللبنانية إنجازاً في إطار الاستفاقة المتأخرة للتخلص من مستوعبات تحتوي مواداً تم وصفها بالخطرة وأفضى إلى توقيع اتفاقية الـ3.6 مليون دولار مع الشركة الألمانية، اصطدم باستحالة تنفيذ العقد. إذ أنّ تقاضي الشركة مبلغ مليون دولار يمثل الدفعة الأولى من قيمة العقد، ليس من شأنه أن يُدخل العقد حيز التنفيذ، بالنظر إلى صعوبات حالت وتحول دون ترحيل المستوعبات إلى أحد الموانئ الأوروبية كما تنصّ بنود العقود، ليصار إلى تحويل موجبات الشركة من ترحيل المستوعبات إلى الخارج، باتجاه معالجتها داخل الأراضي اللبنانية. ما يطرح تساؤلات حول تعديل موجبات الشركة في ظلّ الإبقاء على حقوقها المالية، المتوجبة بالدولار الأميركي. هذا يؤكّد الشكوك والشبهات المثارة حول العقد الذي حظي برعاية سياسية ورئاسية، ولم يرقَ إلى مستوى التنفيذ من جانب الشركة، ما يعني أن الدولة اللبنانية الكريمة رمت مليون دولار في بحر السمسرات في “عز دين” الأزمات، ويبدو أنّها تبحث عن مصادر تمويل للمبلغ المتبقي مقابل تلف محلي لا تصل كلفته إلى 10 % من كلفة العقد، أي إلى أقلّ من نصف مليون دولار.
– بما أنّ الخيار رسا على معالجة وتوضيب هذه المواد محلياً كان الأولى أن يقوم بهذه المهمة القطاع الصناعي اللبناني الذي يعاني ما يعانيه بسبب أزمة الدولار، والذي كان بإمكانه أن يقوم بمعالجة هذه المواد وبكلفة محدودة لا تتجاوز 10 % من قيمة العقد و بقدرات وخبرات محلية، بدلاً من سمسرة ملايين الدولارات لصالح شركة مجهولة، في مهمة غير محدّدة.
مصير العقد كان معروفاً ويبدو أنّ “بوم التراضي” الذي أوصلنا إلى الخراب الذي نحن فيه اليوم أوصل هذا العقد كغيره من العقود إلى طريق مسدود، لأنّه كان يضم مجموعة مخالفات وشوائب ظهر بعضها أصلاً في محضر جلسة مجلس إدارة المرفأ، التي طالبت بإجراء مناقصة واستدارج عروض في جلسة قرار رقم 26/2020 (مرفق صور) وتحفّظ على العقد عضو اللجنة طلال الفاضل. واسمه وتوقيعه واضحان في المستندات المرفقة.
ومن أبرز الشوائب التي لا تبشّر بالخير وأوصلت العقد إلى هنا أنّه:
1 – لم ينصّ على مهلة لتنفيذ المهمة ولم يحدّد معايير السلامة العامة، فيما لو صحّ أنّ هذه المواد هي فعلاً شديدة الخطورة. وكان واضحاً في العقد أنّه أشار في أحد بنوده إلى حقّ الشركة في نقل المستوعبات إلى أحد الموانئ الأوروبية دون تحديد مرفأ بعينه.
2 – يشكل هذا العقد خرقاً فاضحاً للنظام المالي الذي يرعى لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت: “فهو عقد بالتراضي وعقد إذعان في آنٍ معاً، في حالة من غير حالات التعاقد بالتراضي المسموحة قانونياً ونظامياً، وهو عقد إذعان فُرض على لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت من جهات وزارية خارج المرفأ ولم يُسمح لها بالتفاوض بشأن موجباته المتبادلة ولا قيمته”، بحسب مرجع قانوني.
3 – يخالف العقد الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنفايات الخطرة، كما أنّه لم ينصّ على موجب أن تقوم الشركة بالاستحصال على التراخيص من الجهات الألمانية، وهو أمر لم يكن ممكناً إزاء دولة ليست طرفاً في العقد، وتجهل محتوى تلك المستوعبات.
4 – يتّصف العقد، بحسب المرجع القانوني، بعدم الدستورية والقانونية، وذلك لجهة تنازل إدارة المرفأ لصالح الشركة عن مليون ونصف المليون دولار أميركي من المنح والهبات التي قد يقدّمها الاتحاد الأوروبي أو دوله: “فكيف يمكن التنازل عن منحة غير موجودة؟ وكيف يمكن للجنة إدارة المرفأ أن تتنازل عن حقوق محتملة للدولة اللبنانية؟”.
فما سرّ هذا الاتفاق المريب الذي واكبت تأمينه تدخلات سياسية رفيعة المستوى وأرسل إلى إدارة المرفأ موقّعاً من combi lift لتوقّعه إدارة المرفأ، من دون أن يكون للأخيرة حقّ اتّخاذ القرار أو مناقشة بنوده. وكان يكرّر المدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت باسم القيسي عند سؤاله عن هذا العقد أنّه: “مطلوب من فوق”.
فعن أي “فوق” نتحدث؟
يضع “أساس” هذه المستندات والمعلومات في عهدة القضاء المختصّ، ويطالب إدارة مرفأ بيروت أن توضح للرأي العام مسار هذه الصفقة، ومصير الأموال التي حُوّلت أو التي ستُحوّل لصالح الشركة، وتسمية كلّ وزير شارك وسهّل وضغط واستثنى في هذا الملفّ، كي يوضح مسؤولياته ويرفع الغطاء عن أيّ سمسمرة حصلت فيه.
المصدر: أساس ميديا