بات أمراً معتاداً أن “يتفاعل” لبنان مع أيّ حدثٍ يقع في أيّ بقعةٍ جغرافيّة في العالم، قريبة أو بعيدة، وكأنّ هذا البلد الذي قد لا يكون “جزيرة معزولة”، يمتلك قدرة “هائلة” على التأثّر بكلّ ما يجري في المحيط، سلباً أو إيجاباً، ولو كان في أدنى “سلّم أولويات” الدول الكبرى.
لا يبدو اغتيال العالِم الإيرانيّ المتخصّص في الشؤون الصاروخيّة والنوويّة محسن فخري زاده شاذاً عن هذه القاعدة، إذ تُرجِم سريعاً “حبس أنفاسٍ” في الداخل اللبنانيّ، وسط تساؤلاتٍ بالجملة عن إمكان “انعكاسه” على الملفّات الداخليّة المجمَّدة، أو الواقع الأمنيّ المترهِّل.
وإذا كان هناك من يردّ الأمر إلى عاملٍ أساسيّ يتمثل بـ “حزب الله”، وهو المكوّن اللبناني الأصيل، والمرتبط عضوياً بإيران في الوقت نفسه، فإنّ هناك من يخشى أن يتحوّل لبنان إلى ساحة لـ “تصفية الحساب”، بعدما كان على الدوام “صندوق بريد” بين العواصم الإقليمية.
تعاطٍ “حَذِر”
قد يكون مثيراً للانتباه أنّ لبنان، الذي يحسبه كثيرون على المحور “الإيراني”، استناداً إلى علاقات “العهد” المتراجعة مع المحور الآخر، فضلاً عن طبيعة حكومته التي يطلَق عليها “حكومة حزب الله”، كان عملياً آخر الدول التي دانت اغتيال فخري زاده، بعدما سبقته إلى مثل هذا الفعل معظم دول المنطقة، وبينها دول خليجية كالإمارات وقطر والبحرين.
إلا أنّ لهذا الأمر دلالاته في السياسة، كما يقول العارِفون، إذ إنّ للإدانة حساباتها واعتباراتها التي كان ينبغي أن تؤخَذ في الاعتبار، انطلاقاً من أنّ لبنان الذي يدرك مفعول الكلمة وتأثيرها، لا يريد الانجرار لأيّ تصعيدٍ أو توتّرٍ من باب الدبلوماسيّة “غير الذكيّة”، كما أنّه يريد تجنّب تكرار ما حصل في السابق، يوم كلّفت طريقة تعاطي وزارة الخارجية ثمناً باهظاً، وصل إلى حدّ “القطيعة” مع المملكة العربية السعودية، بعد سحب هِبَةٍ كانت قد أعلنت عنها للجيش اللبنانيّ.
ولأنّ لبنان لا يريد لمثل هذا السيناريو أن يتكرّر، خصوصاً في ضوء الأزمات المتفاقمة التي يواجهها حالياً، كان التعاطي مع الاغتيال “حَذِراً” بحسب ما يقول هؤلاء، ولو أنّ الموقف منه ينبغي أن يكون “مبدئياً”، خشية أن يؤدي إلى أيّ “فوضى” غير محسوبة، علماً أنّ العلاقة مع أميركا حضرت في “الكواليس” أيضاً، في ظلّ الخشية من “إغضاب العمّ سام”، طالما أنّ سيف العقوبات لا يزال مسلَّطاً على اللبنانيين، وضاغِطاً على مختلف استحقاقاتهم.
لا تصعيد؟!
ويمكن القول إنّ التعاطي “الحَذِر” في السياسة انسحب أيضاً على الميدان، حيث غابت المؤشّرات، بعيداً عن “البروباغندا” الإعلاميّة، عن وجود أيّ “نوايا” للتصعيد من لبنان، رداً على الاغتيال، الذي وجّهت إيران أصابع الاتهام بالضلوع فيه مباشرةً إلى إسرائيل، إضافة إلى منظمة “مجاهدي خلق” المحظورة والتي تتهمها بـ “الإرهاب”.
ومع أنّ “حزب الله” يعتبر أنّ الهجوم لا ينبغي أن يبقى من دون ردّ، فإنّ كلّ المعطيات المتوافرة تؤكد أنّ “لا نيّة” لدى الحزب للردّ من قلب الداخل اللبنانيّ، ليس لعدم إقحام لبنان بأتون معركةٍ لا ناقة له فيها ولا جمل فحسب، ولكن قبل ذلك لأنّ إيران هي المعنيّة بالردّ المباشر، بعيداً عن نظرية “الصبر الاستراتيجي” التي راجت في بعض الأوساط الإعلامية، والتي تحوّلت إلى مادة للتندّر السياسيّ.
ولا يعني ذلك إمكانية “النوم على حرير”، كما يقول العارفون بـ “حزب الله” وأدبيّاته، الذين يؤكّدون أنّه على أعلى درجات “التأهّب”، كما يصرّ على وجوب الإبقاء على الحيطة والحذر، وهو ما سبق أن دعا إليه أصلاً أمينه العام السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، تحسّباً لأيّ “مغامراتٍ غير محسوبة” يمكن أن تحصل في المدّة الفاصلة عن مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض، والتي لا يُستبعَد أن تحمل من “الجنون” ما يوازي الولاية “الترامبية” كاملةً، وفق ما يحذّر المراقبون.
يغمز البعض من قناة ردّ “حزب الله” المؤجَّل على اغتيال أحد كوادره قبل أسابيع، والذي يبقى وارداً في أيّ لحظةٍ، في ظلّ “التأهّب” الإسرائيليّ المستمرّ، ليتحدّث عن “ردّ مزدوج” قد تشهده الحدود، يربط بين الاغتياليْن. كلّ شيءٍ يبقى وارداً، انطلاقاً من اعتبارات “الحرب النفسية” التي يعمل “الحزب” على أساسها، إلا أنّ الأكيد أنّ “تجنّب المواجهة” يبقى أساساً، في هذه المرحلة على الأقلّ…
المصدر:لبنان 24