قبل مئات السنين، انشغل أهل «بيزنطة» بجدل عقيم لا طائل منه، واختلفوا على جنس الملائكة هل هم ذكور أم إناث، واستمروا في تبايناتهم على كل شيء، في نقاش لا يقتنع به احد منهم، ولا يُرضي احداً منهم، وينتهي دائماً دون إقناع ولا اقتناع، ويستمرون في الخلاف والاختلاف دون جدوى، في وقت كانت اسوار مدينتهم تُدكُّ وتُهدم، وفي النهاية سقطت بيزنطة وانتهت».
هذه الواقعة التاريخية، يُسقطها مسؤول كبير على وضع لبنان، ويقول: ««لبنان اليوم يشبه «بيزنطة»، الخطر يحوط بنا من كل الجوانب، والأزمات الداخلية على أشدّها، والناس صارت بالويل، والمصائب تنزل على رؤوسهم وتكشِّر عن أنيابها لتأكلنا جميعاً، والمخاطر تحوط بنا من كل جانب، ومع ذلك، ما زال «جماعة التأليف» مختلفين على جنس الملائكة، يدورون في حلقة تأليف مفرغة، تحت شعار «أنا أسمّي، إذن أنا موجود»، ويطرحون مصير البلد وأهله على طاولة قمار بين طرف يقول: «أنا أسمّي الوزراء»، وبين طرف آخر يقول: «لا.. أنا من يُسمّي الوزراء»، وبين الطرفين هوّة عميقة تفصل بينهما، يحفران فيها ويزيدانها عمقاً ويوسِّعان الشرخ كلّ يوم»!
«بيزنطة اللبنانية»، على حدّ توصيف المسؤول الكبير، «على وشك أنّ تنهار وتسقط نهائيًّا، ووصفة العلاج متاحة عبر تشكيل حكومة تمنع هذا الانهيار. والمفجع أنّ الملف الحكومي مقفل عمداً من جميع الجهات، ومفتاح الحكومة موجود، ومعروف مع من، فماذا ينتظرون؟ وإلى متى سينتظرون؟ هل إلى حين سقوط الهيكل؟ .. فقط نقول: الله يعين البلد، والله يعين الناس»!
يحتمل توصيف المسؤول الكبير للمشهد الحكومي المعطّل، أن يُعتَبر صرخة في وجه عون والحريري، فهما الشريكان في التأليف، ومفتاح الفرج الحكومي في عهدتهما معاً. ويكاد لا يخلو صالون او مجلس سياسي او غير سياسي من اتهام مباشر وصريح لهما بأنّهما شريكان ايضاً في إخفاء المفتاح وفي تعطيل الحكومة، لأسباب سطحية وشخصية. فيما هما، وعلى ما تعكس اجواؤهما يلقيان المسؤولية على بعضهما البعض.
حتى الديبلوماسيين الأجانب لا يبرؤون رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف من تُهمة التعطيل، بل على العكس، بعض هؤلاء الديبلوماسيين بدأوا يعبّرون صراحة عن اشمئزاز من التأخير المتعَمّد لتأليف الحكومة، ويسألون بغضب «هل يدرك معطلو الحكومة بأنّ الوقت المتبقّي لوجود لبنان يوشك على النفاد»؟
ما تقدّم، يؤكّد انّ تعطيل تأليف الحكومة داخلي، وينسف فرضية وجود عامل تعطيل خارجي اميركي او غير اميركي، يُضاف إليه الحضور المتجدّد للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برسالته الى رئيس الجمهورية وتأكيده بأنّ فرصة تشكيل حكومة اختصاصيين كفوئين ما زالت متاحة على أساس المبادرة الفرنسية المؤيّدة دوليًّا واميركياً، ولم تمت كما صوّرها بعض القارئين في الفناجين السياسية.
وهذا يلقي المسؤولية تلقائيًّا وحصراً على عون والحريري، دون سائر المعنيين بملف التأليف، وخصوصا أنّ كلّ المكونات السياسيّة المرشّحة للمشاركة في الحكومة؛ من حركة ««أمل» الى «حزب الله»، إلى ««الحزب التقدمي الاشتراكي» إلى تيار «المردة»، صرّحت علناً باستعدادها لتقديم اقصى التسهيلات في سبيل التسريع في ولادة الحكومة، وكلّها تؤكّد أن «لا مشكلة من جانبنا».
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يستطيع الرئيسان عون والحريري، أو أيّ منهما، تجاهل رسالة ماكرون؟
بعض القراءات السياسية لرسالة الرئيس الفرنسي تدرجها كحبل نجاة ألقاه الرئيس الفرنسي بين الرئيسين، وصارا محكومين بتلقفه، إذ أنّهما لا يملكان سوى أن يتلقفاه، بعدما فشلت كل المعارك الجانبية الداخلية التي افتُعلت على طريق التأليف:
فمعركة ربط العقوبات الأميركيّة على النائب جبران باسيل بتأليف الحكومة، والتي قال رئيس الجمهورية إنّها أثّرت على هذا الملف، لم تنجح في إقامة «تحالف سياسي عريض» لخوضها، بحيث نأت القوى السياسية عن المشاركة فيها، واصطدمت بأسئلة اشترك في طرحها الخصوم والحلفاء في آن معا: كيف توثّر، واين، وما دخل حكومة تعني البلد كلّه بعقوبات محصورة بشخص بعينه؟ وبالتالي بقيت هذه المعركة محصورة فقط ضمن الفريق الذي حضّر لها.
ومعركة فرض المطالب والشروط وتكبير الحصص والاصرار على وزارات معيّنة، التي خيضت في لقاءات عون والحريري، وصلت الى حائط مسدود بعدما فشلت في تحقيق اهدافها، وفشل أحد طرفيها في استدراج القوى السياسية الأخرى الى هذه المعركة دعماً لموقفه وطروحاته، حيث قوبلت محاولات الاستدراج بكلام صريح: «البعض يريدنا أن نتدخّل للضغط على الحريري في محاولة منه للقول انّ المشكلة عامة، وليست محصورة بعون والحريري، من جهتنا لا خلاف بيننا وبين الحريري، لا على احجام او حقائب ولا على آلية تسمية الوزراء، وحتى ولو كانت الآلية تشكّل مشكلة فقرارنا هو ان نتجاوزها لأنّ البلد لم يعد يحتمل أي تأخير”.