إنطوت صفحة “التكّليف”، وإنطوى معها صفحةً سوادء من الأحداث الأليمة والمتقطعة، التي ألمت بالبلد العام الفائت، وأخذت منحىٍ تخريبياً، من خلال العبث ببعض المباني الحكومية، وإحراق المؤسسات والمحال التجارية، (ما أدى الى فقدان عدد كبير من الشباب وظائفهم وأعمالهم)، كذلك قطع الطرق أمام المرضى والعجزة، ومنعهم من الوصول حتى الى المستشفيات لتلقي العلاج، بالإضافة الى الإعتداءات المتكررة على كرامات الناس، وكيل الشتائم لهم.
والأخطر من ذلك كله، هو محاولة بعض الميلشيات “عرقنة” لبنان، أي ضرب إستقراره الأمني، ودفعه نحو حالٍ من الفوضى والإضطرابات الأمنية والإجتماعية، المماثلةً لما يحدث حوله، خصوصاً في العراق وسورية. علّ أن تؤدي تلك المحاولة، إلى تفكك أوصال الدولة في لبنان، لإدخاله على خط أي تسويةٍ مرتقبةٍ لإنهاء الصراع الدائر في المنطقة، على أمل أن تأتي هذه التسوية، أو بعض بنودها لمصلحة الميليشيات المذكورة، بحسب تأكيد رئيس كتلة نيابية وازنة في البرلمان.
وبدا ذلك جلياً، من خلال قطع أوصال المناطق عن بعضها، ثم محاولات السيطرة على مقارٍ رسمية، فقد كادت هذه المحاولات أن تأخذ البلد الى المجهول، لولا تدخل الجيش اللبناني. كذلك نجاح حزب الله في ضبط جمهوره وشارعه، خصوصاً في الآونة الأخيرة.
والمؤسف أن كل ما ورد آنفاً، من خراب حلّ بالبلد، كان تحت عنوان “ثورة”، عمودها الفقري، “منظمات المجتمع المدني”، التي موّلتها الولايات المتحدة، وفقاً لإفادة مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد هيل، خلال جلسة استماع في لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ، منذ نحو شهر، فقد أقر هيل “أن بلاده، أنفقت 10 مليارات دولار في لبنان، على القوى الأمنية من جهة، وعلى منظمات المجتمع المدني من جهة أخرى، خلال سنوات”.
إذا اليوم إنطوت مسألة تكليف الرئيس سعد الحريري، تشكيل الحكومة المرتقبة، وإنطوت معها الصفحة الأليمة المذكورة آنفاً، الخاسر الأكبر فيها “ثورة 17 تشرين” التي إسهمت بدورها، في المزيد من ضرب البنيتين الإقتصادية والإجتماعية للبنان، فقد شهد خلال “عام الثورة”، إرتفاعاً كبيراً في سعر صرف الدولار أمام الليرة اللبنانية، الأمر الذي إنعكس سلباً على الأوضاع الحياتية والمعيشية للمواطنين، بعد الإرتفاع الحاد في أسعار السلع الإستهلاكية، وفقدان بعضها من الأسواق. في وقتٍ تخلى فيه الحريري عن مسؤولياته تجاه الشعب اللبناني، بعد إستقالته من رئاسة الوزراء العام الفائت، مؤكداً أنه لن يعود الى السرايا الكبيرة في عهد الرئيس العماد ميشال عون. لكن الرئيس المكلف لحس إمضاءه، وهو اليوم يسلك طريق “السرايا”، التي شقها أمامه الرئيس نبيه بري، وعزى الحريري السبب في تراجعه عن موقفه الرافض العودة الى الحكم، تحت عنوانٍ واهٍ، وهو حرصه على “إنقاذ المبادرة الفرنسية”، ناكراً حاجته، ورغبته بالعودة الى السلطة.
إذاً نجح بري في عملية إعادة تكليف الحريري، ومن أجل هذه الغاية، تملّق “المكلف”، لمن يعتبرهم رموز “الوصاية السورية” السابقة، كالكتلة القومية الإجتماعية، ونائب الأحباش عدنان الطرابلسي، وخصم تيار المستقبل اللدود النائب جهاد الصمد وسواهم. وما يثبت شهوة الحريري للسلطة، هو تصديه لعدد من المرشحين المحتلمين الى الرئاسة الثالثة، لثنيهم عن قبول الترشيح، خلال العام الفائت، كالوزيرين السابقين محمد الصفدي، وبهيج طبارة، والمهندس سمير الخطيب.
وقد يكون هذا التكليف الضعيف (بـ 65 صوتاً)، هو فرصة الحريري الأخيرة، ليس لجهة العودة الى الحكم فحسب، بل في إستمراره وديمومته في الحياة السياسية ككل. فهل يلتقط رئيس “المستقبل” هذه الفرصة، ويمضي في عملية تأليف الحكومة بواقعيةٍ، ويسلك الطريق الدستورية لنجاح مهمته؟ بالتالي أن يتخلى عن شروط السابقة، التي تشكل تجاوزاً للدستور، والأعراف المتبعة في تشكيل الحكومات، تحديداً مسألة إقصاء أكبر مكونات المجلس النيابي عن تشكيلته الحكومية.
وفي هذا الصدد، ترجح مصادر سياسية متابعة لمسار الشأن الحكومي، ألا تمانع مختلف الكتل النيابية، تشكيل حكومة من الإختصاصيين، شرط عودة الحريري الى هذه الكتل، لتسمية ممثليها في الحكومة العتيدة، فجميع الكتل، لديها شخصيات من ذوي الخبرات، فلا داعٍ “للتذاكي”، بالتالي تجنب الإصطدام مع هذه الكتل، على حد قولها.
ومن خلال متابعة أجواء المشاورات الحكومية غير الملزمة التي أجراها الحريري أخيرا، وأبدى فيها للنواب، إيجابيةً وإنفتاحاً، خصوصاً تجاه تكتل لبنان القوي، برئاسة النائب جبران باسيل، فقد أكد الحريري لباسيل، حرصه على إقامة أفضل العلاقة مع رئيس الجمهورية . وأبدى باسيل بدوره أيضاً، حرصه على تشكيل حكومة وفقاً للمعايير الدستورية في أسرع وقت ممكن، مؤكداً للحريري، أن ما كل يحظى بموافقة الرئيس عون في شأن “التأليف”، حتماً سيلقى موافقة “لبنان القوي”.
وفي هذا السياق، يؤكد وزير سابق، لديه تجارب سابقة مع الحريري، أن الأخير، يتحدث “حسب ما يطلبه المستمعون”، “أي يعزف على أنغام، ما تحب أن تسمعه كل كتلة، لا أكثر”، على حد قوله. ويعتبر أن “الجو الإيجابي” الذي ساد خلال إجتماع الحريري بتكتل لبنان القوي، يضفي عليه الطابع الاجتماعي، ولا شيئ ملموساً في السياسة، يختم الوزير.
وفي سياق الشأن الحكومي أيضاً، يؤكد مرجع ونائب سني، أن بري والحريري، أتفقا على كل “الطبخة الحكومية”، وعلى أن “يكبونا برا اللعبة”، على حد تعبيره. ويسأل المرجع: هل يغض حزب الله الطرف، بالتالي يوافق على منح الحريري الثلث الضامن في الحكومة المرتقبة؟ خصوصاً أن لدى “الحزب”، حاجة بأن يكون على رأس الحكومة العتيدة، رئيس يتمتع بسعة تمثيل لدى الشارع السني، ليكون حاضراً للتوقيع على ترسيم الحدود اللبنانية المشتركة مع فلسطين المحتلة، بالإضافة الى حاجة لبنان، الى رئيس وزراء، يحظى بتأييدٍ دوليٍ، كي يسهم ذلك في تخفيف حدة المعاناة الاجتماعية والاقتصادية عن البلد، من خلال سماح المجتمع الدولي، بتوفير القروض والمساعدات المالية للبنان.
ورداً على هذا السؤال، أو هذا الهاجس، يجزم مرجع واسع الإطلاع وقريب من الثنائي “حزب الله” و ” حركة أمل”، أن الحزب أبلغ بري، أن أي تشكيلة حكومية، لن تبصر النور، من دون موافقة التيار الوطني الحر، بل أكثر من ذلك، “لاشيئ يمشي في البلد، من دون موافقة التيار”. كذلك يؤكد المرجع أن الحزب لن يوافق إطلاقاً على شروط البنك الدولي، التي يحاول أن يمليها على الحكومة المنتظرة، من أجل منح القروض للبنان، خصوصاً تلك الشروط المتعلقة بالشأن الحياتي للمواطن، كرفع الدعم من الأدوية والطحين، وما الى ذلك.
المصدر: الثبات – حسان الحسن