عرّف الاقتصاديون التضخّم بأنه زيادة في حجم النقود في السوق، والذي ينتج عنه فقدان للقيمة الحقيقيّة للعملة المحلية، ويقابله ارتفاع في سعر السلع والخدمات. وهذا ما حصل في لبنان في الثمانينات وفي العام الحالي، فالدولة تعاني من حالة التضخم “المكبوت” لزيادة ضخ النقود الورقية في السوق والتضخم “المستورد” الناتج عن تأثير ارتفاع أسعار السلع المستودرة.
وإن أحد أسباب انهيار الليرة آواخر الثمانينات هو التركيز على طباعتها لـ “ضب” الدولار من السوق، حيث ضُخّت كميات كبيرة منها في السوق وانهارت العملة. وفضلاً عن المضاربات الحاصلة على العملة في السوق السوداء، فإن ما يقوم به مصرف لبنان حالياً بطباعة عملة محلية وضخّها في السوق مشابه الى حد كبير بما قام به في الثمانينات. والخوف الكبير بأن ضخ العملة في السوق يقابلها في المقلب الآخر عملة وطنية مخزّنة في البيوت هي أيضاً عرضة للإنفلات في السوق في أي وقت قرر أصحابها ذلك، ما سيُفقد التحكم في الكتلة النقدية من العملة الوطنية بشكل لا يناسب حجم الاقتصاد الحقيقي وقيمة الناتج المحلي الذي بالمناسبة يتضاءل بشكل دراماتيكي لأسباب كبيرة كان آخرها وأقساها مأساة انفجار بيروت في 4 أغسطس الماضي.
إن معدل التضخم لأي دولة يتماشى مع معدل نمو كتلتها النقدية من العملة المحلية. وفي الوقت الراهن، جزء كبير من الكتلة النقدية في لبنان هى خارج الجهاز المصرفي، حيث التحدي النقدي الأبرز يكمن في إعادتها إلى داخله لمنع مضاربات السوق السوداء. وكان الأجدى بالحكومة المستقيلة أن تضع نصب أعينها كيفية إيجاد حلول اقتصادية ملائمة تمنع تبديل العملة الوطنية بالدولار وتشّل عمليات المضاربة في السوق الموازية، بدل من تركيزها على شطب ديون بعضها يستحق في العام 2043.
وفي ضوء هذا التدهور الكبير الحاصل في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، فإن الرابح الأكبر من من هذا الأمر هو المصارف اللبنانية، حيث أن ديونها تجاه الدولة ترتفع قيمتها بشكل دراماتيكي، في وقت يستخدم القطاع المصرفي 43 % من اجمالي ودائعه لتمويل الدين العام الصافي للدولة اللبنانية وفق دراسات.
وقد وصل احتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية الى حدود 600 مليون دولار فقط في العام 1984 وهي فترة شغور الحاكمية الأولى لمصرف لبنان أي خلال الفترة الانتقالية من السيد ميشال بشارة الخوري إلى الدكتور ادمون نعيم. وعلى الرغم من حجم الاحتياطي القليل، لم يتعد سعر صرف الليرة آنذاك حاجز الى 6،8 ليرة لكل دولار، في حين أنه قفز الى حدود الـ 840 في 1990 الى أن ثبّت (ولو اصطناعياً وبتكاليف سعر قطع باهظة) عند حدود 1507 منذ العام 1993. وهذا الإرتفاع ناتج بشكل كبير عن تفلت الكتلة النقدية من عملة الليرة داخل السوق اللبناني.
وهنا لا بد من الاشارة الى أن حل شطب ثلاثة أصفار من الليرة من شأنه أن يُرجع نسب كبيرة من الأموال المشغلة في السوق السوداء وجلبها للسوق الرسمي واستعادة بعض من الأموال المتواجدة خارج البنوك، الأمر الذي سيمنع من تواجد الكتل النقدية في الليرة خارج هذا السوق. وفي أوج الأزمة المالية التي يتخبط بها لبنان، أستغرب عدم طرح أحد من صناع السياسات المالية والنقدية في لبنان مثل هكذا اقتراح الذي من الممكن أن يُساهم في علاج الأزمة المالية للبلد.
وإن الظروف الاقتصادية أصبحت مؤاتية لينضم لبنان الى قافلة الدول في العالم التي قامت بهكذا خطوة والتي بدأتها المانيا الغربية بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية لحماية عملتها الوطنية وبث اشارات الثقة باقتصادها الوطني في العالم. وهذا الحذف سوف يلحقه عملية استصدار عملات ورقية جديدة من فئة الليرة والخمس ليرات والـ 25 ليرة والـ 50 والمئة ليرة. وذلك قد يكون الحل المبتكر لاستقطاب الكتلة النقدية الكبيرة المتداولة في السوق السوداء والمخزنة لدى الناس في البيوت. ويترتّب عن هذا الأمر سحب العملات الحالية من التداول بشكل تدريجي قد يصل الى 3 سنوات. كما أن وجود سوق سوداء فاعلة ومؤثرة بهذا الشكل في لبنان ومعدلات تضخم ترتفع بشكل دراماتيكي وفي ظل انخفاض قيمة العملة مقارنة بالعملات الاجنبية وتعثر الدولة في سداد التزاماتها، يحتم علينا السير في هذا المسار الذي يتخّطى منطق العلاج الشكلي لاتسامه باسترجاع تحكم البنك المركزي بالكتلة النقدية. وبالطبع بعد شطب الأصفار الثلاثة سيطلب من المواطنين إستبدال ما لديهم من عملة قديمة بالعملات الجديدة من خلال مقرات موزعة في كافة أنحاء الدولة اللبنانية.
وفي سياق متصل، على لبنان تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني فيه لتعزيز دور المصارف المحلية في التحكم بعمليات البيع والشراء بالتجزئة، حيث عندما يبدأ التداول بين الناس على صعيد الأفراد بالبطاقات الالكترونية، لن يكون هناك حاجة الى التبادل الورقي التقليدي.
وتقول السيدة “كريستين لاغارد”، مدير عام صندوق النقد الدولي في مؤتمر التكنولوجيا المالية في سنغافورة في العام 2018 بأن مقدمو خدمات النقود الإلكترونية يرون أنهم أقل خطراً من البنوك، لأنهم لا يقرضون أموالاً، بل يودعون أموال العملاء في حسابات حفظ ويسددون المدفوعات ببساطة في إطار الشبكات الخاصة بهم.
وتتساءل “لاغارد” اذا كان ينبغي للبنوك المركزية أن تصدر شكلاً رقمياً جديداً من النقود؟ عملة رمزية بضمان الدولة، أو ربما حساب يتم الاحتفاظ به في البنك المركزي مباشرة، يتاح للأفراد والشركات لأداء مدفوعات التجزئة. وقد بدأت بنوك مركزية عديدة حول العالم تنظر جدياً في تطبيق العملة الرقمية، بما في ذلك كندا والصين والسويد وأوروغواي. فلربما لو يبدأ لبنان بتطبيق ذلك سينشط القطاع المصرفي من خلال معاملات التجزئة بين الافراد، فنبدأ نشهد محلات تجزئة في كافة المناطق تعلق اللافتات على واجهات متاجرها بعدم قبول الدفع النقدي، ما سيعزز التداولات المصرفية الذي تُبقي الكتل النقدية داخل الاطار المصرفي بين الافراد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتمنع تضخم الكتلة النقدية.
يُشار إلى أنه وصلت السحوبات النقدية للمودعين من المصارف اللبنانية في شهر تشرين الثاني 2019 الى حدود الـ 165 مليار ليرة يومياً، ما استدعى المركزي الى طباعة أطنان من العملة الوطنية لفئتي الخمسين والمئة ألف لمواجهة مشكلة السحوبات. ولا يختلف إثنان من الملمين في المجال الاقتصادي والنقدي بأن طباعة العملة من قبل البنك المركزي هو أمر بالغ الخطورة إذا لم يتم تغطية كل وحدة نقدية مطبوعة رصيد من احتياطي النقد الأجنبي أو رصيد من الذهب، حيث أن ضخ العملات النقدية في السوق يجب أن يتناسب مع حجم الاقتصاد والانتاج المحلي للمحافظة على القيمة الحقيقية لهذه العملة.
والأخطر ما في الأمر أن من أحد دوافع طباعة العملة هو تأمين رواتب موظفي القطاع العام التي تبلغ حوالي 1200 مليار ليرة شهرياً بفضل اقرار سلسلة الرتب والرواتب. ولا بد من الاشارة هنا أن ضخ العملة اللبنانية في السوق اللبناني قد زاد التضخم بشكل ملحوظ للعلاقة العضوية المباشرة بين المؤشرين. وبدأ الأمر بإقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام 2018 ومرّ بتعاميم مصرف لبنان لتعويض أصحاب الحسابات الصغيرة إضافة الى السماح لأصحاب الودائع بالدولار سحب قيمة ودائعهم نقداً بالليرة وليس آخره من يطرح اليوم فكرة إعطاء تعويضات صندوق الضمان الاجتماعي على سعر صرف 3900 ليرة. هذا أمر محق للموظف غير أنه قاتل للاقتصاد الوطني والعملة المحلية على غرار اقرار سلسلة الرتب التي لم يجن منها الموظف حتى اليوم الا غلاء الأسعار الاستهلاكية وبالتالي تآكل قيمة راتبه. والحل يكون أن يحصل المتقاعد على تعويضه وفق سعر صرف 3900 ليرة شريطة تجميد جزء كبير منه في حساب مخصص في البنك المركزي لمنع زيادة عرض الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية لا سيما أن أكثر من 500 ألف شخص ينتظر تقاضي تعويض نهاية الخدمة من الضمان!
المصدر: mtv