رفع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل سقف التصعيد إلى ذروته. استهدف الرئيس سعد الحريري بعناوين سياسية مختلفة، رافضاً تسميته لرئيس الحكومة ورافعاً سلاح الميثاقية لاستنفار العصبيات في البيئة المسيحية، وهو ما ساهم في تأجيل الإستشارات النيابية إلى الأسبوع المقبل. وأياً يكن ما سيقوله باسيل في تصعيده المقبل، فإن الصورة السياسية والطائفية للتموضع في المواجهة عند رئيس التكتل الطامح إلى تأدية أدوار مختلفة، لا يخفي من بينها الترشح إلى رئاسة الجمهورية، باتت واضحة ولا تحتاج إلى كثير من البحث عما يستهدفه في ظل الإنقسام السياسي الراهن في لبنان.
يهدد التيار العوني بالعمل على تغيير الدستور، ولا يخفي باسيل توجهه إلى طرح الفدرالية أو اللامركزية الموسعة بصلاحيات، رداً على ما يعتبره توافقاً ضمنياً شيعياً سنياً على الحكومة المقبلة أو على الأقل إعادة تكليف سعد الحريري، على رغم أن “حزب الله” لا يزال يرى في التفاهم مع العونيين مصلحة لمشروعه السياسي ضمن البيئات الطائفية المختلفة، خصوصاً المسيحيين، لكن تأجيل الإستشارات عكس تمسك رئيس الجمهورية ميشال عون بموقف باسيل وبذريعة الميثاقية التي يرفعها في وجه التوافق الجديد الذي يأتي في ظرف يختلف عن الوضع الذي كان قائماً عند عقد تفاهم مار مخايل بين التيار والحزب، حيث كان الخلاف السني الشيعي في أوجه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أمام هذا الواقع، بدا انه لم يعد أمام جبران باسيل إلا التصعيد وشحذ همة التيار العوني في الساحة المسيحية، وهو الذي خسر الكثير منذ 17 تشرين الأول 2019 عند انطلاق الإنتفاضة، وحتى قبل ذلك أي بعد سنتين على وصول الرئيس عون إلى قصر بعبدا، حيث لم يتحقق أي إنجاز في البلد الذي يعاني الإنهيار والإفلاس. وبالنسبة إلى باسيل أيضاً، هناك الورقة الخارجية، التي يقدمها اعتماداً للأميركيين. في الخيار الأول مسيحياً يسعى باسيل للضغط على الحريري لدفعه إلى التنازل عن شروطه لترؤس حكومة جديدة من دونه، وتلويحه بترشيح أسماء أخرى، وكذلك في منافسة “القوات اللبنانية” التي أخذت من رصيده، لكن الإستشارات أرجئت، وهي ربما لن تكون متاحة أيضاً الخميس المقبل، طالما أن عون يصر على إشراك باسيل في القرار ويغطيه من موقعه الرئاسي العام.
يتخوّف باسيل من التفاهم الشيعي مع سعد الحريري بعنوان تسوية سنية- شيعية، وأن يتم تكليف الحريري فعلاً بالرغم من تأجيل الإستشارات بقرار من رئيس الجمهورية، وهو يحاول أن يشد عصب تياره مسيحياً لفرض معادلة تحت عنوان الميثاقية، وخوفاً من أن تذهب الأمور إلى تواصل بين الثنائي الشيعي والأميركيين، من باب الترسيم وايضاً في الرسالة التي يحملها تكريم اللواء عباس ابراهيم في واشنطن، إذ تبدو الأوراق التي يستخدمها باسيل في مواجهة التغيرات تساهم في شكل غير مباشر في عزلة التيار وخسارة المزيد من رصيده. حتى طرح إسم غير الحريري لا يستطيع باسيل تسويقه، وإن كان يحاول مد جسور تواصل مع الفرنسيين وإعادة تسويق نفسه لدى الأميركيين الذي يمارسون الضغوط على كل الأطراف.
الصورة التي يروجها جبران لا تبدو أنها تعزز وضعه، لا بالعلاقة مع “حزب الله” الذي لا يزال يغطيه، لكن لديه مصالح وحسابات مختلفة، ولا بين المسيحيين الخائفين على وجودهم وعلى الكيان. لذا لم يعد باسيل قادراً على تقديم نفسه مرجعية رئاسية وكأنه ينطق باسم رئيسي الجمهورية والحكومة معاً، ولا كونه الرجل القوي المرشح لأن يكون في الموقع الأول لبنانياً، وهو يدرك في سياق الاصطفافات الطائفية الجديدة، أن الثنائي الشيعي لا يريد الفدرالية، ليس لأسباب رفضها مطلقاً، إذ أنه وعلى رغم كل ما حدث منذ 17 تشرين لا تزال سيطرته شبه مطلقة في البيئة الشيعية، وهيمنتهما مترسخة، ولا يريد أن تكون الفدرالية محاولة لتطويقه أو التفلت من قوته وهيمنته.
في تصعيد جبران باسيل رسائل للهيمنة مسيحياً وهو يفكر بالمرحلة المقبلة، وكيفية بناء خاصية على المستوى اللبناني تنتهي بالفدرالية، وبتكريسه موقعاً لا يتزحزح في الساحة المسيحية. وفي معركته مع الحريري، يسعى الى توظيف كل ما يتاح في عهد رئاسة ميشال عون وتوظيفها واستثمارها. هذه سياسات مارسها في الحكومات السابقة وأدت إلى مزيد من الخسائر وتراجع موقعه، فإذا استمر على هذا المنوال، من دون أن يكون غيره بالضرورة على صواب، سيخسر المزيد في الساحة المسيحية ويعاني العزل لبنانياً في زمن الإنهيار والهاوية…
المصدر: النهار