مرحلة جديدة بلغتها الأزمة النقدية في البلاد مع استمرار استنزاف احتياط مصرف لبنان من دون حلّ سياسي، فيما أهل الحلّ والربط يمضون في سياسة النكد والنكايات وابتكار البدع والهرطقات، التي تحول دون قيام حكومة تلاقي رغبة المجتمع الدولي بمساندة لبنان للخروج من أزمته.
في توقيت بلوغ انعدام المسؤولية لدى “المسؤولين” حدودًا غير قابلة للتصديق، تلقّى اللبنانيون خبر تقييد السحوبات على أموالهم بالليرة، بالتزامن وذكرى مرور سنة على تقييد سحوباتهم بالدولار. بصرف النظر عن أهداف هذا التقييد وقراءة الإقتصاديين لتداعياته السلبية منها والإيجابية، قد تبدو هدية المصارف للمواطنين وكأنّها لزومٌ يلزم لجهنّم الموعودة، ويقين لا يحتمل الشكّ أنّنا ما زلنا في طريق الإنحدار إلى قعر الهاوية.
باشرت بعض المصارف بالفعل في خفض سقوف السحوبات النقدية، واختلفت النسب في ما بينها. أمام عملائها، برّرت بأنّ إجراءاتها الجديدة سببها تعميم مصرف لبنان الذي حمل الرقم 573. هذا التعميم وضع سقفًا لسحوبات المصارف من المركزي بالليرة، والمصارف التي تريد أن تتخطى السقوف، تكون ملزمة بالسحب من ودائعها المجمّدة في مصرف لبنان أو من شهادات الإيداع. وعلى رغم أنّ المركزي لم يطلب في تعميمه تحديد سقف السحوبات للمودعين بالليرة، سارعت المصارف إلى تحميل المودع كلفة التعميم، بدل أن تتحمّلها هي، وقلّصت سقوف السحوبات النقدية بالليرة، في خطوة من شأنها أن تكرّس انعدام ثقة المودع بالمصارف أكثر فأكثر.
في قراءة لهدف مصرف لبنان من تعميمه الأخير، والأسباب التي استوجبت اتخاذه، أوضح مدير أنظمة الدفع السابق في مصرف لبنان رمزي حمادة في حديث لـ “لبنان 24” أنّ مصرف لبنان حذّر في الآونة الأخيرة، من أنّ احتياطه الذي يموّل من خلاله النفقات الأساسية للبنانيين، ينضب شيئًا فشئًا، خصوصًا وأنّ الحكومة غائبة، والإرباك يطبع سياساتها منذ أن تخلّفت عن دفع سندات اليوروبوند، ولغاية اليوم لم تقم بأي إجراء للجم التضخم أو لوضع حدّ لتآكل مدّخرات اللبنانيين، وتقاعست عن واجبها في تحقيق الأمن الإجتماعي للمواطنين، وألقت بالمسؤوليات كلّها على عاتق مصرف لبنان لتمويل نفقات الدولة وثلاثية السلع الضرورية، الأمر الذي شكّل استنزافًا لاحتياط المركزي من العملات الأجنبية.
أضاف حمادة “من ناحية ثانية المصارف تسحب من حساباتها في مصرف لبنان بالليرة، من دون أن تعاود إدخال هذه الأموال، بحيث لا يعود منها إلّا القليل. كما أنّ المركزي ضخّ أكثر من 25 ألف مليار ليرة لتمويل النفقات، وأضحى هناك كتلة نقدية غير مسبوقة في السوق. حيال غياب الحكومة عن القيام بمسؤولياتها، يجد المركزي نفسه ملزمًا باتخاذ تدابير لإطالة احتياطه، كي يستمر في دعم لقمة عيش المواطن أطول فترة ممكنة“.
في تعميمه رقم 573 لم يحدّد المركزي سقوفًا لسحوبات المودعين من المصارف، كما أوضح حمادة، بل أجرى تقييمًا لمعدّل السحوبات الشهرية لكلّ مصرف، وهي بطبيعة الحال تختلف بين المصارف الصغيرة والكبيرة، وطلب من المصارف أن تلتزم بهذا المعدّل من دون زيادة، وإذا رغب مصرف ما بسحوبات إضافية من المركزي، فلتكن من ودائع المصرف المجمّدة في مصرف لبنان. لكنّ المصارف كي لا تخسر ما تجنيه من فوائد على أموالها المجمّدة في المركزي، تذرّعت بالتعميم لتقييد سحوبات عملائها، بنسب ٍ تفاوتت بين مصرف وآخر، المصارف الصغيرة منها حدّدت سقف السحب شهريًا بمليوني ليرة فقط. وبالتالي الخلل يكمن في تطبيق المصارف للتعميم، إذ يبدو وكأنّها “فشت خلقها” بالمودع، الذي عانى الأمرّين ووصلت الأمور إلى حدّ المساومة على راتبه.
المركزي يهدف من تعميمه إلى الحدّ من استعمال فائض الليرة لشراء الدولار في السوق السوداء، ولجم الحركة الزائدة بالليرة التي تستخدم لصالح التهريب، وتشجيع استخدام بطاقات الإئتمان التي تقلّص بدورها من حجم التداول بالنقدي. ولكن التجار سيشهرون البطاقة الحمراء، ويصرّون على قبض ثمن بضائعهم نقدًا، والأمر غير مستغرب بنظر حمادة، بحيث دأب هؤلاء على المحافظة على هامش ربحهم على حساب المواطن.
التعميم ألزام مستوردي المواد المدعومة تأمين نسبة 85 في المئة من قيمة السلع المستوردة بالليرة اللبنانية على سعر الصرف المدعوم، نقدًا، وليس من خلال الشيكات المصرفية، الأمر الذي من شأنه أن يحدث طلبًا على الليرة الكاش من قبل هؤلاء. كما أنّ تقليص المصارف لحجم السحوبات النقدية وحصرها بالبطاقات المصرفية، سينعكس شحّاً في السيولة النقدية بين أيدي المواطنين. إنطلاقًا من هنا يتخوف خبراء الإقتصاد من أن يصبح هناك سعران لليرة، الليرة الـ fresh والليرة الدفترية في المصارف، على غرار ما يحصل بالنسبة إلى الدولار النقدي الموجود في السوق والدولار المصرفي أو ما يُعرف بـ“lollar”، وبالتالي ستفقد أموال المودعين بالليرة المزيد من قيمتها.
“مكره أخاك لا بطل” قد يختصر هذا المثل تدابير المركزي في لعبة شراء الوقت، بقصد إطالة عمر المليارات المتبقّية في خزينة المركزي ما أمكن من أشهر لشراء الدواء والغذاء. بصرف النظر عن صوابية إجراءات المركزي أو فشلها، معضلتنا تكمن في مكان آخر، يجسّدها حكّام “أقوياء” يحرقون كلّ فرص النجاة على قلّتها على مذبح أنانياتهم المقيتة، ويعطّلون قيام حكومة إنقاذية، ويواصلون رهن مصير شعب بأكمله لتحقيق مكاسب فئوية على قاعدة “أنا.. ومن بعدي الطوفان“.