إنْ صَحّ القول إنّ تقرير مكتب التحقيق الفيدرالي الاميركي «FBI»، الذي تَسلّمه المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان، أقَرّ بأنّ انفجار 4 آب «هو نتيجة عمل متعمّد وليس حادثاً عادياً»، يكون قد أحيا السيناريو الذي تجاهَل الإشارة الى «لِص غبيّ» أشعَل النار في العنبر لإخفاء جريمة السرقة من دون أن يُقدّر العواقب. وعليه، هل يجوز الربط بين هذه النتيجة وما قال به هذا السيناريو؟ وهذه بعض الدلائل.
أعاد تسريب بعض ما جاء في التقرير الذي وضعته بعثة مكتب التحقيقات الفيدرالي الاميركي («FBI») التي شاركت في التحقيقات التي أعقبت تفجير مرفأ بيروت في 4 آب الماضي، أحد السيناريوهات التي تمّ التداول بها في اجتماعات أمنية ضيقة ولم يتسرّب الى خارجها، على رغم من تناوله في أحد اجتماعات المجلس الاعلى للدفاع في 26 آب الماضي، حول احتمال ان يكون وراء الحريق المتعمّد في المرفأ مَن واظَبَ طوال السنوات الست الماضية على سرقة كميّات من نيترات الأمونيوم الموَضّبة في العنبر المشؤوم الرقم 12، واضطرّ في ذلك اليوم الى إحراق بعض محتوياته للتعمية على جريمته من دون ان يدري الى ما يمكن ان يؤدي إليه هذا الحريق في ظل وجود مثل هذا «اللص الغبي».
ما يقود الى هذه المعادلة الجديدة ناجم عمّا تحدّثَ عنه التقرير الذي وَضعه مكتب امن الدولة في المرفأ، لافتاً الى مخاطر محتوياته وما أوحى به من مظاهر السرقة التي تتعرض لها هذه المواد في تواريخ سابقة للانفجار. وبمعزل عن عدم اقتناع المسؤولين على مستويات مختلفة حكومية وسياسية وأمنية وقضائية بالمخاطر التي أشار اليها التقرير الذي وضعه رئيس المكتب الرائد جوزف النداف مُدعّماً بالتقارير التي وضعها خبراء كبار، فقد بقي كُثر ممّن كانوا على علم بمحتويات ذلك العنبر يتعاطون مع الملف تقليديّاً وبالوسائل الإدارية المُملّة، الى أن وقعت النكبة. فلا يمكن لأحد تجاهل هذه الحقائق المرة، بما فيها تلك التي أدّت الى إلغاء الزيارة التفقدية للمرفأ، التي كان ينوي القيام بها آنذاك رئيس الحكومة حسان دياب، بعد إقناعه انها مواد كيماوية زراعية لا تتسبّب بأيّ مخاطر كان قد أشار اليها ذلك التقرير.
وانطلق اصحاب السيناريو المُشار اليه من فرضية انّ مَن «أدمَن» على سرقة المواد المخزّنة في العنبر، يمكن ان يكون على ارتباط بمجموعة من العارفين بأدقّ تفاصيل ما يجري فيه، وقد تيقّنوا انّ اكتشاف عملية السرقة قد اقتربت وهو ما سيؤدي بهم الى ما لا يحمد عقباه، فأسرعوا الى إشعال النيران في زاوية من زوايا العنبر في ظروف كانت مُهيّأة بوجود كميات كبيرة من الالعاب النارية وكيلومترات من كابلات الإشعال التي تستخدم في المتفجرات كما في الألعاب النارية، من دون إدراك النتائج المترتبة على إمكان انفجار كميات النيترات المخزّنة فيه.
كان الإعتقاد سائداً أن ليس لدى «لص الأمونيوم» فحسب، انه في إمكان التغطية على جريمة السرقة بوسائل مختلفة، ومنها التسبّب بحريق يخفي الأدلة. ومَردّ ذلك الى انّ مَن أقدمَ على إشعال الحريق كان قد قرأ بوضوح ما يمكن ان يؤدي اليه تقرير الرائد نداف بإشارته الى وجود عملية نهب وسرقة منظّمة نتيجة «بَعثرة موجوداته»، وبوجود قرابة 1000 كيس من اكياس الأمونيوم «مهشّمة» و»مُفرَزة» في شكل خرجت منها محتوياتها بكميات كبيرة في منطقة قريبة من الفجوة في حائطه، ما يوحي أنها كانت تستخدم «كدرج» للعبور من فوقها الى خارج العنبر حيث كانت توَضّب المسروقات في آليّات استخدمت لهذه الغاية.
ولا يتوقف اصحاب هذه النظرية عند المشاهدات التي اشار اليها تقرير النداف، وهو ما أثبتَته مختلف التقارير الأخرى التي أوحَت في شكل من الأشكال بوجود مثل هذه السرقة عندما شكّكت في انّ الانفجار، ورغم هول ما أدى اليه، ليس ناجماً من انفجار الكمية الضخمة كاملة التي قُدّرت عند تخزينها بـ 2750 طناً، لأنه، وفي حال كان الانفجار ناتجاً عن مثل هذه الكمية، فإنّ انفجارها كان قد مَحَا مناطق أوسع من بيروت، وكانت الاضرار قد لحقت بالمناطق المحيطة ببيروت والتلال المُشرفة عليها وصولاً الى قرى ومناطق من جبل لبنان.
وبناءً عليه، يمكن تفسير مضمون التقارير التي وضعها خبراء من مختلف الدول التي عرفت انفجارات مماثلة وأكدته بعثات التحقيق الدولية التي كان خبراؤها يعملون الى جانب خبراء الجيش اللبناني في موقع الانفجار، والتي قالت إنه ناجم من كميّات أقل بقليل مما يحتويه العنبر، وذهبَ البعض منها الى القول انّ الكمية التي انفجرت لا يمكن ان تتجاوز نصفها، أي بما يتراوح بين 1300 طن او 1400 كحد اقصى، فيما قال آخرون انها لا تتجاوز الثلث وما دون تقريباً.
وبناءً على كل ما تقدم، فإنّ السيناريو نفسه الذي تحدث عن «اللص الحارق» لا يقود الى معرفة الشخص او الجهة التي كانت تسرق المواد، ولا تستطيع التحديد ان كانت عملية إفرادية او مجموعة منظمة قامت بفِعلتها لمصلحة شخص او فئة، سواء كانت لبنانية ام اجنبية. ولكنّ المنطق يقود الى الربط بين ما جرى وحاجَة فئات لبنانية الى مثيلات لها، عَدا عن حاجة الأزمة السورية الى مثل هذه المواد. فلبنان يعيش منذ سنوات عدة في محيط المنطقة الملتهبة التي تَعَدّت ساحته الداخلية لمجرد اندلاع شرارة الحرب في سوريا، وما احتاجَته القوى المتنازَعة على أرضها لمِثل هذه المواد في مجرى العمليات العسكرية التي استنفَدت من خلالها كل قواها العسكرية والارهابية على حد سواء.
وفي هذه الأجواء تجدر الإشارة الى ما كشفته مراجع أمنية مطّلعة تواكب التحقيقات الجارية، انه وبمعزل عمّا قال به تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي الاميركي، فإنّ وصوله الى المعنيين في هذه الفترة سيُساهم في اقتراب صدور القرار الظني. فقد انتهى المحقق العدلي القاضي فادي صوان من تحقيقاته الداخلية مع كل مَن استمع إليهم من مدنيين وعسكريين بصفة شهود او متّهمين. كما انه اقترب من تحديد المسؤوليات بطريقة ستؤدي الى إطلاق الضباط الموقوفين وإدانة البقية، وهو سيرفعه قريباً الى المجلس العدلي للمباشرة في المحاكمات التي ستنضح بكثير ممّا كان غامضاً الى اليوم.
ويختم العارفون بالقول انّ ما حمله التقرير الأميركي وما سيأتي به القرار الظني سيُجيب عن كثير من الأسئلة بأجوبة تقترب من تحديد ما حصل ولم يكشف بعد، ومما لا يزال يتجاهله البعض ويتنكّر له لأكثر من سبب وسبب.
المصدر: الجمهورية