كتب طوني عيسى في “الجمهورية”: ليست هذه اللحظة للحل. الأمر واضح. فـحزب الله لا يعتبر نفسه حزباً ينتهي على حدود لبنان الكبير. هو ينخرط في مواجهةٍ حدودها الشرق الأوسط. لذلك، لن يتسرَّع ويقدِّم التسوية إذا كانت محصورة بالداخل اللبناني. إنه لا يريد ذلك ولا يستطيع. وفي أي حال، إذا كان سيقدِّم التسوية فهو يريد الثمن، والقادر على دفع الثمن هو الأميركي لا الفرنسي. فلننتظر الأميركي إذاً. ولن تولَد الحكومة لا في قصر بعبدا ولا في الطائرة الرئاسية… “كما في السماء، كذلك على الأرض”. فاقتضى الإيضاح.
في انتظار جلاء الصورة الجديدة في البيت الأبيض، وانطلاق الرئيس في مهامه في كانون الثاني المقبل، سواء كان دونالد ترامب أو جو بايدن، سيكون ملف العلاقات الأميركية- الإيرانية في الثلاجة. وعلى الأرجح، سينتظر الإيرانيون شهراً كاملاً ليعرفوا نتائج الانتخابات. وبعد ذلك، سيرسمون خطة التعاطي في الأشهر التالية مع الولاية الجديدة.
الفرنسيون كانوا أدركوا، بحساباتهم، أنّ لبنان لن يتحمّل هذه الطاحونة الأميركية- الإيرانية. تدخّلوا لتسويق تسوية “لبنانية”. استفادوا من الصدمة التي أحدثتها كارثة المرفأ ومن ذكرى مئوية “لبنانهم الكبير” وسماح الأميركيين بدورٍ لوسيط، فتدخّلوا. كانت لحظة مثالية ليحافظوا على لبنان ويثبِّتوا مشروعية مصالحهم فيه.
تحت الصدمة، حصل الرئيس إيمانويل ماكرون على وعدٍ بالتسهيل من حزب الله. وفي المقابل، قدَّم له وعداً بتسهيل أموره في الداخل وتأمين حماية دولية أكبر له. ولكن، لا “الحزب” استطاع أن يحافظ على التزامه، ولا ماكرون استطاع حمايته من العقوبات الأميركية، فبقيت الأمور عند الصفر.
اليوم، ماكرون في حال غضب، والأرجح أنّه مستعدّ للقيام بأي شيء لخرق الجدار، ولكن، عبثاً: إذا أراد تقديم الإغراءات لـحزب الله كي يتنازل، فسيصطدم بالرفض الأميركي. وعلى العكس، إذا قرَّر الضغط على “الحزب” ليتنازل بالقوة، فستبقى المفاعيل محدودة، لأنّه يفتقد إلى أدوات الضغط الكافية… إلّا إذا دخل شريكاً في العقوبات مع الأميركي.
إذاً، هي فترة صعبة جداً في لبنان. في الحدّ الأدنى، هي مسألة 3 أشهر باقية من العام الجاري، وربما 3 أشهر آتية من العام المقبل، أي حتى تتبلور الصورة في البيت الأبيض، ومعها تحوّلات المواجهة الإيرانية- الأميركية.
مع ترامب أو مع بايدن، إذا تمّت الصفقة فلا يُفاجأ أحد بحصول مقايضات في لبنان. فـحزب الله قد يدفع في مكان ويقبض في مكان آخر، لأنّ إيران أدرجته على طاولة مفاوضاتها ضمن أوراقها الخاصة. ولذلك، هو قد يحصد في السياسة ما قدَّمه في الأمن والعسكر. ولكن، يصعب التكهّن بما سيجري إذا قرّر الأميركيون والإيرانيون استمرار المواجهة، لأنّ ظروف الصفقة بينهم لم تنضج.
في الدرجة الأولى، يجدر التذكير بأنّ إسرائيل ستكون عاملاً أساسياً في تحديد مسار هذا الملف، لأنّها تخوض المواجهة تحت عنوان: “لا مكان لإيران على حدودنا، ولن نكون في مرمى صواريخها الدقيقة”. وهذا يؤثّر كثيراً في تحديد درجة الاستقرار التي يتمتع بها لبنان. وستكون المفاوضات الجارية أو المعلَّقة جزءاً من عوامل الاستقرار أيضاً.
ولكن، ماذا سيفعل لبنان خلال أشهر الانتظار الثقيل، الـ3 أو 4 أو أكثر؟
هنا التحدّي. فلبنان لا يستطيع إطلاقاً أن ينتظر شهوراً أخرى، لا مالياً- اقتصادياً ولا سياسياً ولا اجتماعياً ولا أمنياً. وهو اليوم في حال انهيار، وسيدخل في حال أسوأ: الفراغ والفوضى الكاملة. ولذلك، هو يحتاج إلى “حقنة المخدّر” الفرنسية على الأقل للحدّ من الوجع في انتظار الحلول. ولكن، حتى هذه “الحقنة” تبدو مرفوضة.
في هذه الحال، سيكون على لبنان أن يواجه مصيراً أسوأ مما توقعه أكثر المتشائمين. وفيما يبدو مستحيلاً أن ينطلق الحل المالي- الاقتصادي- النقدي في المدى المنظور، بسبب القطيعة مع صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي والجهات المانحة، هناك أصواتُ صراخ بدأت تُسمَع، مع تلويح المصرف المركزي بوقفٍ للدعم، بدأ تدريجياً وسيصبح شاملاً قبل نهاية العام الجاري.
بالتفصيل، هناك مشكلة دواء على الطريق، ومشكلة محروقات على أبواب الشتاء. وهناك جنون أسعار للمواد الاستهلاكية الأكثر حيوية. والناس في قلق شديد، لأنّ الأسعار ستصبح مضاعفة مراراً بعد رفع الدعم، وستصبح الليرة في الحضيض.
وبعد توقف الدعم الذي أقرَّه المصرف المركزي، قبل أشهر، عبر الصرّافين للطلاب في الخارج، جرى اعتماد مبلغ 10 آلاف دولار سنوياً للمسجّلين في الأعوام الفائتة. ومع “تحليق” الدولار، سيكون مصير عشرات الآلاف من الطلاب الجدد في الخارج على كفّ عفريت. وحتى المشمولون بالدعم قد يخسرونه فجأة بعد شهرين أو ثلاثة.
عند بلوغ هذه الحال، لن تكفي رواتب الناس حتى للحصول على الطعام والدواء (بعبارة أوضح: ما بقي من أناس ما زالوا يتقاضون رواتب). وسيكون الوجع كبيراً جداً والصراخ عالياً. وثمة من يعتقد، أنّ رفع الدعم سيكون القشّة التي تقصم ظهر البعير، أي الدولة وأركانها. وسيُضاف إلى صراخ أهالي ضحايا المرفأ الذين لا يثقون في أنّ هذا الطاقم سيتيح كشف الحقيقة وإحقاق العدالة.
ولكن، هناك مَن يقول إنّ الضربة القاضية ستأتي من حيث لم يتوقع أحد: “الكورونا”، بعد انقلاب لبنان من النموذج القدوة إلى النموذج الأسوأ.
فمَن يتصوَّر، المرضى- الجائعين- المحبَطين- المنهوبة مدخراتهم- المحزونين بفقدان الأحبّة، مَن يتصوَّر هؤلاء وهم يتدفقون بالعشرات أو المئات على أبواب المستشفيات بحثاً عن سرير، فيما أركان الطاقم يتمتعون بكل الخيرات التي نهبوها ويتصارعون على الباقي… وعلى الآتي؟
هل ستكون انتفاضة 17 تشرين “الوردية” مجدداً، أم سيكون أمراً أكثر قساوةً على الجميع؟