كتب منير الربيع في “المدن”: تبتعد التطورات في لبنان عن التفاصيل المحلية، وتذهب إلى الأبعاد الإقليمية والدولية. وينتظر لبنان سلسلة محطات مترابطة داخلياً وخارجياً: تحديد موعد لزيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد شينكر، إلى بيروت، لإعلان اتفاق الإطار حول عملية ترسيم الحدود. وزيارة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف آخر شهر تشرين الأول.
وهناك حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي عن عدم السماح لإيران بأن تكون موجودة على الحدود الشمالية للدولة العبرية. وهناك أيضاً الضغط الفرنسي وتلويح باريس بالعقوبات في ظل استمرار المبادرة الفرنسية المتعثرة.
هذه التطورات كلها لها ارتباطاتها الدولية، من أرمينيا وأذربيجان، إلى العراق وسوريا. فلم يعد في الإمكان فصل أي ملف عن الآخر في رسم تصور لخريطة التحالفات بمساراتها وانعكاساتها.
تعقيدات المشهد الدولي
وتسود المشهد الدولي – الإقليمي تعقيدات كثيرة، من دون أن تظهر حقيقة مواقف ومصالح القوى الدولية المتنازعة في سياق هذه التطورات.
وتجد فرنسا نفسها تلقائياً أنها صاحبة المبادرة في لبنان، وإلى جانب أرمينيا في مواجهة تركيا بأذربيجان. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن خلال زيارته لبنان أنه يريد مواجهة المشروع التركي. ولا يمكن المبادرة الفرنسية أن تنجح في لبنان من دون تقاطعها مع إيران ووجود بوادر انسجام فرنسي – إيراني.
وتلقف ماكرون هذه البوادر قبل إطلاق مبادرته، فغازل حزب الله. لكنه سرعان ما اضطر إلى شنّ هجوم عليه، بسبب إفشاله المبادرة الفرنسية. وتقود التحليلات إلى أن إيران أفشلت هذه المبادرة، لإبقاء لبنان ساحة نفوذ بينها وبين أميركا فقط.
أما في أرمينيا وأذربيجان، فتقف إيران على الحياد. بمعنى أنها لا تدعم أرمينيا. وهي سارعت إلى نفي أي علاقة لها بنقل أسلحة هناك، حيث تتعارض مصالح طهران مع باريس وتتلاقى مع تركيا.
لكن إيران تتلاقى مصالحها هناك مع روسيا، وكذلك في لبنان، وخصوصاً في ظل الشراكة القائمة بين شركتي نوفاتيك الروسية وتوتال الفرنسية في عمليات التنقيب عن النفط والغاز. ولا يمكن لهذه الشركات أن تعمل في لبنان من دون ضوء أخضر أميركي.
مفاوضات بين برّي وأميركا
الضوء الأخضر الأميركي قد يتوافر بعد عملية ترسيم الحدود في لبنان. والأنظار اللبنانية كلها تتجه إلى هذه المسألة.
وفي هذا السياق، تكشف مصادر متابعة عن تواصل غير معلن ومستمر بين الرئيس نبيه برّي والأميركيين، لإعلان اتفاق نهائي لإطار إطلاق مفاوضات ترسيم الحدود. واتفاق الإطار ينص على تلازم الترسيم البري والبحري، على أن يكون الترسيم البحري برعاية كل من أميركا والأمم المتحدة، ومشاركة وفد لبناني ووفد إسرائيلي، في مقابل أن يكون الترسيم البري برعاية قوات اليونيفيل.
ولا تربط المصادر هذا الملف بأي تشكيلة حكومية. إنما تربطه باستحقاقات أكبر وأبعد استراتيجياً، لناحية ما سيتكرس من تفاهمات تؤسس لتسهيل عمليات التنقيب عن النفط. أما سياسياً، فالهدف الأميركي منه تسجيل إنجاز جديد لإدارة دونالد ترامب قبل الانتخابات الأميركية.
إسرائيل وإيران وفرنسا
وفي ظل هذه المفاوضات، برز كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن عدم سماحه بوجود إيران على الحدود الشمالية لإسرائيل. وهو حتماً يقصد الوجود العسكري الثقيل لحزب الله، وخصوصاً صواريخه الدقيقة. ولكلام نتنياهو هذا تفسيران: الضغط على إيران لتقدم تنازلات عسكرية عبر حزب الله. أو المزيد من التفجيرات في مواقع تابعة لحزب الله. ولا يمكن فصل هذه المسألة عن التفاوض على ترسيم الحدود. فالمساران هذان متلازمان.
وهنا أيضاً جاء موقف الرئيس الفرنسي واضحاً، عندما قال لحزب الله إنه لا يمكنه أن يكون في الوقت نفسه حزباً سياسياً، وجيشاً مسلحاً يقاتل إسرائيل، وميليشيا تقاتل في سوريا. وهذا يعني الإلتزام الفرنسي بالأمن الإسرائيلي، تسهيلاً لعمل شركة توتال النفطية الفرنسية.
روسيا في سوريا ولبنان
وروسيا الباحثة عن دور ونفوذ في لبنان، لها قراءتها أيضاً، على غرار قراءتها في الجنوب السوري. فهي التي سمحت للإسرائيليين باستهداف مواقع حزب الله وإيران في سوريا.
وفي زيارة لافروف الأخيرة إلى دمشق، طلب من الأسد مسألتين، إلى جانب اتفاقات المصالح بين الطرفين: تخفيف وجود الإيرانيين وحلفائهم في سوريا. والاستعداد لمفاوضات غير مباشرة أو مباشرة مع إسرائيل. جانب من هذه المسائل، كالحدود والتنقيب عن النفط وعدم السماح بتوتير الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، سيكون حاضراً على جدول أعمال لقاءات لافروف اللبنانية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الإلتقاء بين فرنسا وروسيا في لبنان: عدم عزل أي مكون لبناني داخلي، في مقابل عدم تسخين الجبهة العسكرية، أو السماح بتفلت الأمور وتدهورها في لبنان. وفي هذا السياق روسيا وحدها القادرة على ممارسة الضغوط على إيران، لتجنب أي توتر في لبنان بين حزب الله وإسرائل.
العراق وجنوب لبنان
وفي سياق هذه التعقيدات الدولية والإقليمية المترابطة، لا بد من التوقف عند التطورات العراقية، وعند الاستنفار القائم بين الإيرانيين والأميركيين هناك، وصولاً إلى التهديد الأميركي بإغلاق السفارة في بغداد، وإخلاء طاقمها.
ولا بد من قراءة هذا التطور بكثير من الدقة: هل يرتبط بالمزيد من التصعيد والتسخين في العراق؟ فإخلاء طاقم السفارة الأميركية ببغداد قد يكون استباقياً لاحتمال حصول أي ضربة تحول الديبلوماسيين إلى رهائن. وأي استشراف إيراني لخطوة أميركية من هذا النوع، تدفع طهران إلى الدخول في معركة استباقية، قبل الانتخابات الأميركية، لإلحاق الضرر بدونالد ترامب.
ولكن تدهور الأوضاع إلى هذا المنحى، لا يعني أن الصراع يظل محصوراً في العراق، بل قد يتطور. والسيد حسن نصر الله كان قد اعلن سابقاً، أن أي اعتداء على إيران ُيقابله ردّ عسكري من حلفائها.
وهنا لا بد من العودة إلى الساحة اللبنانية والجنوب تحديداً. وهكذا يفهم كلام نتنياهو عن عدم سماحه لإيران بالتمركز على الحدود الشمالية لإسرائيل.